كلما داهمني إحساسي المرير بالغربة وشعرت ببرد مشاعري، أهرع إلى دفء الصغير جدًا بحجم كفي، بيتي لا بابًا حقيقيًا له ولا مفتاحًا، بيتي بابه غطاء جلدي عسلي اللون، ومفتاحه حروف وأرقام!
باللمس تنتقل أفكاري ومشاعري من الغربة والوحدة إلى دفء الاتصال ومتعة الأخبار.
بيتي لا طعام فيه ولا شراب ولا أثاث ولا تحف، هو مجرد أيقونات متناهية في الصغر، اضغط عليها فتفتح لي عالمًا رائعًا من أسماء أهلي وأصدقائي، وصورهم أو حالاتهم أو تعليقاتهم تفتح بيني وبينهم حديثًا لا ينتهي، قوامه حروف تتصل على عجل، وأصوات تطير بسرعة البرق من مكاني إلى أبعد مكان، أصوات تحمل همي وحبي واشتياقي وشجوني، لأمي، لأخوتي، لأحبتي.
وحين يغدو لبيتي سقفًا عاليًا من قوة إشارة الإنترنت، تصبح الصور الثابتة متحركة تحمل الألوان والألحان وتكاد توصل لي بعضًا من الروائح والأحلام.
هذا هو عالمي، يشبه تمامًا عبارة كنت أسمعها في شارة برنامج تلفزيوني عنوانه (العالم بين يديك)، نعم، كأننا أصبحنا مخلوقات ثابتة، صامتة، لا قدرة لها على التعبير بالكلمات والإيحاءات فصارت كلماتها على رؤوس أصابعها، ولأن الحواجز في كل مكان، والسفر ليس بالإمكان، وخطر الاعتقال قائم لعلة تشابه الأسماء أو لتهمة الإرهاب، فقد صار الثبات في المكان ميزة لكل سوري مهما كان عاشقًا للسفر وتغيير المكان، وصار الترحال حلما بعيد المنال، فاللاجئ السوري في أوربا يحلم بإقامة دائمة هناك، وإنْ فكر بالعودة لوطنه سيجد بيته مدمرًا وأقاربه وأصحابه نصفهم هاجروا مثله ونصفهم تحت التراب، ومن بقي في الوطن قسمته الحدود إلى قسمين واحد مؤيد وآخر معارض، وفي الحالين يصعب جدًا جمع الطرفين.
ولذلك تبدو البيوت والمقاهي وأماكن اللقاء كلها عبارة عن شاشات ضوئية تستعين بالحروف العاجزة عن الكلام وبالوجوه التعبيرية الصفراء لتصنع حوارًا دافئًا، وتعطينا متعة وهمية في لقاء الأهل والأحباب، لا نلمس أيديهم، لا نعانقهم، لا نشم روائح عطرهم، هم صور متحركة تبتسم، تضحك، تتكلم من وراء حجاب.
يزداد الحجاب سماكة كلما ازدادت سوءًا شبكة الاتصال، ومع كل هذه الحجب، ومع بعد المسافات الهائلة، وتراكم الأحلام المؤجلة، يزداد الخوف في كل واحد فينا،
خوف الفقد بلا وداع، خوف الرحيل دون لقاء، وقلق من أسئلة كالمطارق لا تكف عن الطرق على رؤوسنا، متى تنتهي الحرب؟ متى نعود؟ متى نلتقي؟ متى نحيا؟ هل سنحيا؟ هل سنموت هنا أم هناك؟
وكما العيون والأصابع معلقة دائمًا بشاشة الجوالات، صارت الحياة والأفكار والأمنيات معلقة في فضاء ضيق تتأرجح بين حدٍّ أعلى يكتفي بالعيش آمنًا فيما تبقى من وطن محرر، دون كابوس تقدم قوات النظام، وبين حدٍّ أدنى هو عبارة عن فرصة عمل بنصف كرامة، دون مذلة سلة الإغاثة، وبعيدًا عن قهر المخيمات التي لا تبني حلمًا ولا تصنع مجدًا، بل تكتفي بأن تحافظ على حياتك من الزوال، وهي في أسوء صورها أرحم ألف مرة من حياة المعتقلات التي ماتزال تغص بالأبرياء من أهل سورية كبارًا ورجالاً ونساء.
وماذا بعد أيها العالم المتمدن؟ هل ستقصف إدلب؟! أم أننا سنبقى بأمان عابر في معتقل كبير بلا حدود سقفه عالٍ جدًا هو سماء الله، لا تعذيب فيه ولا حرمان، وليس فيه جدران عالية مكهربة ولا فيه قضبان.