كم كانت الثورة السورية حقيقيةً وصادقةً عندما ملأ المتظاهرون شوارع المدن رجالاً ونساءً وأطفالاً، تصدح حناجرهم بالحرية وتعلو أصواتهم بالتكبير في الساحات، هذا المشهد لا يمكن مسحه من أرشيف الذاكرة، فهو أولى ركائز الثورة حينما كانت بيضاء نقية يحمل رايتها الأبطال الحقيقيون، خالية من المتطفلين المارقين الذين استولوا على المشهد مؤخراً فسرقوا الثورة وتصدروا الشاشات ليوهموا الجميع أنَّهم أصحاب الثورة وأبطالها.
يتبادر السؤال إلى الأذهان: أين ذهبت هذه الجموع الغفيرة؟ ماذا حلَّ بأحلامهم التي ناضلوا من أجلها؟
يأتي الجواب على هيئة أرقامٍ مرعبة، فكثيرٌ منهم أضحى في غياهب السجون والمعتقلات، ومنهم دفن تحت التراب، فالموت كان أكثرُ انصافاً لهم من خذلان الجميع حينما وقفوا عزّلاً أمام البنادق والدبابات، ومنهم من حلَّق بجناحيه واختار الهجرة والغربة كموطن له عندما أصبح الوطن أكبر منفى وأكثر عزلة وغربة!!
بهذه الصورة الرمادية أصبح المشهد أكثر وضوحاً وأشد ألماً حينما اختزلت أيقونات الثورة اليتيمة بهذه الثلاثية المحزنة.
أمَّا عن الصنف الأخير، فلا يمكن وضعه في خانات الثورة، فهم كالأمراض التي نزلت بها وفتكت بجسدها، وما إن أنهت مهمتها حتى انسلت وعادت إلى حضن الوطن من جديد، هؤلاء هم الطفيليات التي تغذَّت على دماء الشهداء سبع سنين وأكثر، هم الذين رأوا بالثورة عجلاً سميناً ووجبةً دسمةً، ليشبعوا بطونهم وجيوبهم، وهم بهذه الحالة إمَّا أن يعتزلوا الكفاح السياسي ويعودوا إلى حياتهم الطبيعة، أو أن يرموا بأنفسهم إلى حضن الوطن مجددين الولاء والبراء إلى سيده!!
لقد ظلمنا الثورة وخذلنا الشهداء تحت التراب حينما سمحنا لهؤلاء المنتفعين أن يمسكوا لجام الثورة ويُحكموا القبض عليها، فأغلبهم رجال أعمال مرموقين يتسارعون في استلام المناصب موكّلين أنفسهم عن الشعب السوري رغما عنه، لاهثين وراء مصالحهم الشخصية، وربَّما أحدهم لم يطأ بقدميه الأراضي السورية قط، أو لم يحمل السلاح يوماً ويشارك في معركة، أو ينام جائعاً كأطفال الغوطة المحاصرين، أو يشتم رائحة الكلور كأطفال خان شيخون…
هذا الصنف لم يعرف هذه الأوجاع إلا من خلال الإعلام، وكذلك الشعب السوري لم يعرف هذا الصنف إلا من خلال الشاشات أيضا.
إنَّ هذا الصنف تغلل في مفاصل الثورة كلها فنجد منهم من دخل السياسة وفعل ما فعل وعاد إلى حضن الوطن، وكذلك من كان في الإخراج السينمائي، ومنهم في المجال العسكري، وكذا باقي القطاعات، فكانوا خناجر مسمومة طعنت الثورة من الخلف لغايات متنوعة كالعمالة والجشع الشخصي والشهرة وغيرها….
هذا الحال لم تكن تخلو منه ثورة عبر التاريخ، فعندما شكَّل الإسلام نقطة تحول جذرية في تاريخ البشرية و كان ثورة بحدِّ ذاته على الجاهلية والعبودية والشرك لم يسلم أيضاً من المنافقين والمنتفعين كون الإسلام ضمن لهم حقوقهم وأمنهم، فكانوا بين أظهر الصحابة يلبسون عباءة الإسلام وقلوبهم مشحونة بالعداوة والبغضاء، وقد كشفهم القرآن الكريم في عدة مواضع، وبيَّن خطرهم ومكرهم وحذَّر منهم، وكذا هم الوصوليون الذين استغلوا الثورة وكانوا أشدَّ مكراً من أعدائها الحقيقيين وأكثر خبثاً عندما امتطَوا الثورة لمصالحهم الشخصية متناسين التضحيات التي قدمت في سبيلها منذ اللحظات الأولى لاندلاعها.
والملفت للنظر أنَّهم باتوا مكشوفين للعيان، لم تعد حقيقتهم سراً، وفي كلِّ يوم تسقط ورقة أحدهم ويتعرى أمام الجميع؛ لأنَّهم أهل باطل ونفاق، ومهما صال الباطل وجال فلا بدَّ له من كبوة تنهيه، ويسود الحق وأهله مهما طال غيابه.
فقد تبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ.