أ. عبد الله عتر |
تفتح سورة الشورى قضية عميقة الأثر في عالمنا اليوم، تكمن في الأسرة والمجتمع والسوق والسلطة، وتجيب على سؤال كبير؛ ما المرجعية التي نحتكم إلى معاييرها وأحكامها عندما نختلف؟ وهل لنا أن نحاسب من يختلف معنا ونوقع عليه العقاب؟ تأتي الآية العاشرة من السورة وتفتح هذا الملف بشكل مباشر: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)). ماذا يعني ذلك تحديدًا؟ تخبرنا الآية أننا إذا اختلفنا في أي شيء، في أي قضية دينية أو دنيوية في أي مجال صغيرة أو كبيرة، علينا الإيمان بأن حكمها لله، حسنًا؛ ماذا يعني حكم الله؟ وكيف نعود إليه؟
مضمون الاختلاف وأخلاقيات الاختلاف
شرح المفسرون بأفق منفتح كيف أن الآية مُوجَّهة لكل الناس وللمسلمين من الناس؛ وعلى هذا يكون تأويل الآية: “وما اختلفتم فيه من شيء أيها الناس، وما اختلفتم فيه من شيء أيها المسلمون”. يتوغل المفسرون أكثر فيشرحوا أن ما يختلف فيه المسلمون مع غير المسلمين أو فما يختلف فيه المسلمون أنفسهم؛ إنما يكون الاحتكام فيه إلى الله على مستويين:
المستوى التشريعي: نحتكم إلى الله في الاهتداء إلى الصواب في المُختلَف فيه، ففي معالجة الاختلاف يجب الاستناد إلى ثوابت معينة ونقاط مشتركة، وإلا فلا يمكن معالجته ولا إدارته إذا كان كل شيء مُختلفًا عليه. يوضح هذا المستوى أن حكم الله له وظيفة تشريعية مُتعلِّقة مباشرة بمضمون القضية المُختلَف عليها، حيث تقدم فيها محتوى وتعاليم تساعد المختلفين على معالجة الاختلاف نفسه أو إدارته بشكل شوري.
المستوى الأخلاقي: نحتكم إلى الله في الجزاء على الأديان والأعمال المختلفين فيها، فالله يفصل يوم القيامة خصومة المختصمين واختلاف المختلفين، وعند ذلك يظهر المُحق من المُبطل ويجازى، وليس للبشر سلطة الفصل والمجازاة في الدنيا. يوضح هذا المستوى أن حكم الله له وظيفة أخلاقية متعلقة بكيفية الاختلاف وكيف نتعامل مع بعضنا حين نختلف، حيث تحمي حق كل واحد إنسان أن يؤمن بالدين الذي يختاره، وتمنع الآخرين، ولو كانوا مسلمين، أن يجازوه أو يحاسبوه على كفره، وتجعل ذلك لله وحده. يقول ابن جزي مفسرًا الآية: “ما اختلفتم فيه أنتم والكفار من أمر الدين فحكمه إلى الله بأن يعاقب المُبطل ويُثيب المُحق”.
إدارة الاختلاف مع غير المسلمين
فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وغير المسلمين في أي قضية، فالواجب على المستوى الأخلاقي ألَّا يُجبر المسلمون غيرهم على الإيمان بدينهم أو شريعتهم، فضلاً عن أن يحاسبوهم على كفرهم، يقول ابن عطية مفسرًا الآية: “قل لهم يا محمد: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أيها الناس من تكذيب وتصديق وإيمان وكفر وغير ذلك، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليست إليَّ ولا بيديَّ، وإنما ذلك إِلَى اللَّهِ”.
والواجب على المستوى التشريعي والمعرفي أن يعود المسلمون مع غير المسلمين إلى الله في القضية المختلف فيها، وذلك بالعودة إلى الوحي المشترك بين الديانات المُنزَّلة، وهو ما ستفصله السورة مباشرة بعد آيتين: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))، هذه الشريعة العالمية المشتركة التي تتالى عليها رسل الله من نوح إلى محمد، عليهم الصلاة والسلام، تتضمن أصول العقائد والعبادات وأصول الأخلاق وأصول الأحكام العملية التي تنظم علاقات الناس ومصالحهم الدنيوية وحقوقهم وواجباتهم.
الاجتماع على الدين في تنظيم العالم
هذه العودة إلى الشريعة المشتركة إن كانت كاملة اقتضت الإيمان برسول الشريعة الخاتمة، وإن كانت ناقصة اقتضت الاتفاق على ما يمكن الاتفاق عليه من أخلاق الديانات وعقائدها وتشريعاتها، هذا المقدار الذي يتم الاتفاق عليه لا يجعل الوحي الصادق مقتصرًا عليه، بل هو من باب الاجتماع على الدين قدر الإمكان والمتاح، فالمسلم الحقيقي يؤمن أن دينه حق كله ولو لم يوافقه عليه أهل الأديان الأخرى.
يعني هذا في الوقت الحاضر أن يتم تأسيس العالم الحديث والمجتمعات المعاصرة على مقتضيات الدين وحضوره في الحياة الخاصة والعامة، خاصة في الجوانب التي هي محل اتفاق بين أهل الأديان في عصرنا، مثل أصول الحقوق والأخلاق، فالدين في هذا المنظور حل للاختلاف لا مشكلة.