عبد الله عتر
فتحت سورة الشورى ملف الاختلاف بين البشر ذوي الديانات المتنوعة، ورسمت ملامح الطريق الذي ينبغي السير فيه هنا، مسير يحف به رعاية الحريات والاحتكام إلى الله (راجع المقالة السابقة). ينتقل المفسرون مع الآية العاشرة: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ”، ليشرحوا كيف تخبرنا السورة عن إدارة الاختلاف بين أبناء الدين الواحد؛ لأن الخطاب “شامل الأمة إلى يوم القيامة” كما يقول النيسابوري.
كيف نعود إلى حكم الله؟
تخبرنا الآية العاشرة أن أي قضية نختلف فيها، صغيرة أو كبيرة، يجب أن نلتمس حكم الله فيها،
مثلاً؛ اختلاف الزوجين في تربية الاولاد، اختلافنا في طريقة حل الصراع داخل المجتمعات، اختلافنا في معالجة الفقر، كيف سنلتمس حكم الله فيها؟
يخبرنا المفسرون بخبرتهم الطويلة أننا حين نعود إلى الله لنعرف حكمه في مسألة معينة سنجد أن حكمه ليس حجرة أو غرفة واحدة ندخلها فنرى حكم الله جاهزًا ينتظرنا فنأخذه ونطبقه، ما سنجده فعليًا أننا ندخل في أربع حجرات متتالية، وحين نخرج من الحجرة الرابعة سنكون قد خرجنا ومعنا حكم الله في المسألة
الحجرة الأولى
وهي قيم وقواعد كلية عامة، مثل العدل والرحمة والتعاون والصدق، وقواعد عامة أكثر تحديدًا بقليل، في مسألة الفقر سنجد من القيم الموجهة لنا الرحمة والتعاون التي تدفعنا نحو التضامن الاجتماعي، وفي الوقت نفسه نجد قيم الملكية الخاصة، ونجد قاعدة أن للفقير حقًا في مال الغني “فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”. بعد أن نجمع القيم والقواعد العامة المتعلقة بمسألتنا نمضي إلى الحجرة الثانية ونحن نحملها معنا..
الحجرة الثانية
أحكام عملية مُحكَمة.. نجد أنفسنا هنا أمام أحكام محددة وتعليمات مباشرة عملية وإجراءات وتفاصيل وآليات، وتكون ذات عبارة واضحة مُحكَمة لا تحتمل معاني متعددة. نجد في هذه الحجرة أن المقدار المحدد الذي يستحقه الفقير من مال الغني هو (2.5%) كل سنة. (هناك تفاصيل أخرى تتعلق بزكاة الزروع والأغنام..). نخرج من هذه الحجرة وفي جَعبتنا قيم وقواعد كلية وأحكام عملية قطعية، بهذه الطريقة فإن المسألة المختلف فيها أصبح لها بوصلة تشير إلى اتجاه معين.
الحجرة الثالثة
عبارة عن أحكام عملية مرنة، إذ نجد في هذه الحجرة تعليمات عملية مباشرة مثل الحجرة السابقة، لكنها هذه التعليمات قابلة للتفسير بأكثر من معنى، قد يكون لها معنيان أو أربعة، تساعد هذه الحجرة على زيادة الوضوح حول الحل، وأكثر الأحكام العملية المباشرة في التشريع الإسلامي تقع في الحجرة الثالثة، مثلاً ما هو معيار تحديد الفقير الذي يستحق الزكاة، هل هو المعدم، أو الذي لا يجد كفايته، أو الذي لا يملك نصاب الزكاة، نجد هذه الخيارات المتعددة التي تنير أمامنا المشهد أكثر.
الحجرة الرابعة
حكمة البشر وتجاربهم وواقعهم.. ستجد حكم الله في هذه الحجرة يوجب علينا أن نفحص الواقع وحيثياته وأعرافه، ونقدّر المصالح والمفاسد ونعمل عقولنا في هذا العالم، ونوسع أفق الشورى على كل المستويات. مثلاً سنفحص من هم الفقراء، وما هي المنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي سنركبها كي تحل مشكلة الفقر، هنا سيختمر الحل المباشر الجاهز للتنفيذ، حيث تركب حلاً يتضمن كل المعرفة التي حملتها في جَعبتك من الحجرات الثلاثة السابقة، وإذا تجاهلت واحدة من هذه الحجرات فأنت لم ترجع إلى حكم الله.
يلخص المفسر النيسابوري ذلك أن المراد بالعودة إلى حكم الله العودة إلى “بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد”.
رغم ذلك سنختلف..
لنفترض أنني اختلفت مع صديقي في معالجة مسألة الفقر، من المحتمل جدًا أن نخرج من الحجرة الرابعة وكل واحد لديه حل مختلف عن الحل الذي خرج به الآخر، ماذا سنفعل حينها؟ هل حكم الله هو الذي خرجت به أنا أو هو؟
كان جواب المفسرين أن هذا المقدار من الاختلاف هو في حكم الاتفاق يجب حمايته؛ لأن الوحي ما زال الأرضية المشتركة التي يصدر عنها الجميع في آرائهم وحلولهم، و”القياس والاجتهاد هو رجوع إلى الله في حكمه” كما يقول السمعاني.
نظرًا لبقاء الاختلاف ستختم السورة بآية الشورى التي تؤكد أن الحسم النهائي في أمور الشأن العام إنما هو لرأي الجماعة، التي تقرر كيف تُدار المصالح العامة ومن يديرها.