6100كم مربع من المساحة قد تبدو بنظرك ليست كبيرة كثيراً، لكن هذه المساحة المتواضعة تأسرك بجمال آثارها، وتغطي بياض عينيك اللون الأخضر لكثرة أشجارها، حتى تضن أنَّ خضارها استقر في عينيك وتحول لونهما إلى اللون الأخضر، ليس هذا وحسب تلك المدينة المولعة باللون الأخضر اختارت أن يكون علمها أخضر شامخاً يغطي سمائها ويقهر أعداءها.
في يوم 28 آذار من سنة 2015 أشرقت شمس الحرية، لتشق ليلاً أسودَ طويلاً، وتبعث دفأها بين أرجاء المدينة التي أنهكها البرد القارس.
في ذلك اليوم حيث كانت تكبيرات شبابنا أعلى من أصوات مدافعهم ورصاص بنادقهم، وعلت زغاريد نسائنا لتزف تلك المدينة.
تلك هي إدلب وما أجملها! تكالبت عليها الأعداء وشياطين السياسة، وما كان عليها إلا أن تدفع ثمن جمالها.
بعد تحريرها من ظلم الطغاة، حاولوا تدميرها وحرق أحلامها وتكسير أرواحها، قتلوا أبناءها، واغتالوا شبابها، وغمَّسوا خبزها بدم أهلها، لكنَّها مازالت صامدة بصمود أهلها، وحرة كطير يموج بالسماء لا تقيده أصفاد، رغم كل ما حلَّ بها من متاعب إلا أنَّها فتحت قلبها لتضم أبناء بلدها من شتى المدن السورية، فتحت قلبها لكل حرّ صرخ الله أكبر وخرج للشوارع يطالب بحريتنا… كرامتنا… إنسانيتنا…
باحثاً عن كلِّ شيء سلبه النظام على مدار خمسين عاماً ذقنا فيها من الموت ما يكفي لإقامة آلاف المقابر.
على هذه المساحة لا توجد إدلب فقط، بل هنا حلب وحمص وحماة ودمشق وريفها، هنا حكاية شعب يصنع من الموت حياةً، ومن اليأس أملاً، ومن الفشل نجاحاً، حكاية صمود تحكي للعالم أنَّنا شعب لا يهزم.
بعدما ذاقوا من ويلات الحصار، وجحيم المعتقلات، وقصف الطائرات، تستقبلهم بابتسامة دافئة، وتطبطب على كتفهم بحنان، تخيط الأجزاء الممزقة والمهترئة من قلوبهم، تشاركهم أحزانهم وأفراحهم.
جمعتنا هذه الأرض الخضراء التي تفوح منها رائحة الموت وتفيض بقصص الشهداء، أصبحنا أخوة القصف والمآسي والانتصارات، شكراً لهذه الأرض لأنَّها جمعتنا فوقها، قضيتنا واحدة ومجهولة لا أحد يعلم عنها شيئاً… قضية كلِّ من ينبض قلبه فوق هذه المساحة، أي قرابة المليونين نسمة، لا تعرف أي مستقبل ينتظرها وما هو مصيرها!
في كلِّ ليلةٍ نقول: لعلَّ الغدّ يكون أفضل، لكن قبل أن تستقبل عيوننا خيوط الشمس تأتي لتحل مكانها صواريخ الطائرات.
واليوم تضاءلت الحياة فيها بأيادي من تسلق على ثورتنا بمشاركة الغرباء، ولم يعد هناك مكان للأمان، إنَّنا نعيش في ضياع كبير، وأصبحنا أجساداً بلا أرواح.
ترسم لنا الدول الحياة التي تريدها حسب مصالحها لا من أجل مطالبنا التي ننتظر تنفيذها منذ سبع سنوات، مصيرنا تلعب به الأمم والرؤساء وقادات الحروب ككرة في ملعب، وفي اجتماعاتهم يجلسون خلف الطاولات وأماهم أوراق، يجتمعون فتزيد علينا المجازر والآلام وهم لم يتذوقوا جزءاً صغيراً ممَّا ذقناه، لا يعلمون ما معنى أن تفقد أهلك كلهم دفعة واحدة لتزفهم شهداء، وروح أغلى من روحك أصبحت تحت الركام، يشاهدون مناظر أبنائنا وأجسادهم غارقة بالدماء …
متى تنتهي هذه المهزلة؟
كلُّ هذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي، كونوا على يقين تام أنَّنا جزءٌ من الحل، من لا يقف بوجه أعدائنا ولا يدافع عن قضية ثورتنا، ومن لا يهمه أبناء بلده، ومن يسكن الخوف قلبه وغير قادر على نزعه من أجل وطنه، ومن يخشى كلمة الحق، فعذراً، عن أي وطن تتكلم؟! وكيف ستكون جزءاً من الحل ما دمت هكذا؟!
أحلامنا ستتحرر مثلما حررنا إدلب الخضراء، ومستقبلنا نحن مَن نرسمه ونختار ألواناً تناسبه، لا نظام الأسد ولا غيره من الدول تفعل ذلك، نحن أبناء هذا والوطن، وهم نزلاؤه، ونحن أقوياء رغم هشاشة ما نملك، وهم ضعفاء رغم مخازن أسلحتهم، مازلنا نجد على هذه الأرض من يشعر مثلنا ويفكر في بناء مستقبلنا، فنسعى معهم حاملين ألواناً وريشاً لنبدأ برسم ملامح جميلة تليق بنا، ونغمس ريشنا بألوان تستهوينا.
إلى العابثين بمستقبلنا: نحن شعب تحدَّى كلَّ طرق الموت ومازال واقفاً شامخاً مثل أعمدة آثار مضى على عمرها آلاف السنين، نحن شعب ضحى بمليون شهيد، نحن من يرسم ويخطط ويلون، نحن نريدها إدلب مثلما حلمنا بها، لا يقيدها حكم خارجي أو عسكري، لا اعتقال فيها على رأي من حقي أن أقوله بأعلى صوتي دون أن يلحقني الأذى.
نريدها كيوم التحرير خضراء كعلمنا الذي كفنّا به الشهداء.
نريدها إدلب كما هي، لا أيادٍ تلوثها وتعبث بها، ولا أناس يبثون السم في حياتها.
نبض الثورة السورية أنت، أسرت كلَّ من رآك.