إدلب الخضراء كما تُعرف ويحلو لأبنائها أن يسمونها أيضاً، تلك المحافظة الوادعة التي لطالما كانت ترفد سورية الوطن بمنتجاتها الزراعية المتنوعة التي تجود بها سهولها المعطاءة، فمن غير الممكن أن تُذكر إدلب دون أن تقفز للذاكرة شجرة الزيتون المباركة التي تعدُّ رمز هذه المحافظة وعنوانها لدى أبناء سورية.
وهذه المحافظة التي أهدت لسورية الثائر المجاهد إبراهيم هنانو أيام الاستعمار الفرنسي، كان من الطبيعي أن تكون من أول المحافظات التي لبت نداء الواجب لتَشُد عَضُدَ أختها درعا في بدايات ثورة الكرامة، لتغدو مع مرور الأيام “درع الثورة”، وتكون من أوائل المحافظات التي يخرج ريفها عن سيطرة النظام، ثم لتتحرر بالكامل في ربيع العام 2015م حين تحررت منطقة جسر الشغور آخر معقل للنظام في المحافظة، ومن حينها ومع تراجع الثوار في مناطق سيطرتهم لصالح النظام غدت إدلب موئلاً لهم، فتجمَّع بها معظم أبناء المناطق المحاصرة من مدنيين وعسكريين بعد عقد الكثير من التسويات مع النظام.
وبعد ما جرى في الفترة الأخيرة من صراع بين الفصائل الثورية المختلفة الموجودة فيها آلت الغلبة لجبهة فتح الشام “جبهة النصرة” المحسوبة على القاعدة، الأمر الذي جعل إدلب محور اهتمام القوى الدولية المنخرطة في الشأن السوري.
ولئن كان الجميع يعلق أسباب اهتمامه بالسيطرة على إدلب على شماعة الإرهاب وحجته جاهزة بعد دخول المحافظة بأكملها في عباءة فتح الشام كما ذكرنا آنفاً، إلا أنَّه يمكن تقسيم هذه القوى لثلاثة فرق رئيسية بحسب توجهاتها وأسباب اهتمامها “غير المعلنة ” على النحو الآتي:
الفريق الأول وهو النظام ومن يدعمونه “روسيا وإيران” هذا الفريق يريد إدلب لرمزيتها لدى الثوار، ويرى بأن سيطرته عليها تعني الإجهاز على الثورة بالكامل والتخلص منها بشكل نهائي من ناحية، وتفويت الفرصة على الآخرين المتربصين بها والراغبين في السيطرة عليها من ناحية أخرى.
أما الفريق الثاني فهو الأكراد ومن ورائهم أمريكا، وهذا الفريق يعمل جاهداً ليضع يده على إدلب؛ ودوافعه كثيرة منها؛ المخطط الكردي الهادف للسيطرة الكاملة على الحدود الغربية لدولتهم مع تركيا، وبالتالي الاقتراب من البحر المتوسط كحلم قديم يراود الأكراد الطامحين لإيجاد منفذ بحري لدولتهم الحلم، فضلاً عن تدعيم وجودهم في منطقة عفرين وما حولها، وهو مطلب مُلِّح لإضعاف درع الفرات وإفراغه من مضمونه وضم أراضيه، وبالتالي توجيه ضربة قاصمة لعدوهم اللدود الجانب التركي مرتكزين بذلك على دعم غير محدود من أمريكا التي تبدو كأنها عازمة على وضع حدٍّ للطموح التركي وتحجيم دوره الإقليمي وإنهاء مغامرة حزب العدالة والتنمية بعد أن فشلت بذلك عن طريق الانقلاب العسكري في تموز 2016م.
أما الفريق الثالث والأكثر تضرراً من الوضع في إدلب فهو تركيا، والتي تعي تماماً ما يشكله سيطرة أحد الفريقين السابقين على إدلب من خطورة على أمنها القومي وعمقها الحيوي، فليس من مصلحتها الأخلاقية أن يتمكن النظام من إنهاء الثورة وهي الداعم والراعي الأكبر لها منذ البداية، فهي تريدها استمراراً للثورة وبالتالي تبقى هذه المنطقة مواليةً لها “بعد تسوية وضع فتح الشام طبعاً” وتؤمن بذلك حدودها في هذه المنطقة الحيوية، والأهم من ذلك أمنها القومي فيما لو قُدِّر للأكراد وحليفتهم الولايات المتحدة بسط سيطرتهم على إدلب، الأمر الذي من شأنه اكتمال ملامح الدولة الكردية على حدودها الجنوبية والذي يُعتبر امتداداً لأكراد تركيا المناوئين للحكومة المحلية، وهو أمر لا تتمناه أنقرة لأنه كفيل بنسف جهودها التي دأبت عليها منذ عقود لتحجيم الأكراد والحد من طموحاتهم الانفصالية.
وعليه فإنَّ الوضع في إدلب اليوم مفتوح على احتمالاتٍ ثلاثة:
إما أن يفوز بها أحد الأطراف المتصارعة عليها وينفذ مخططه وينتهي الجدل القائم بشأنها وهو أمر قائم وممكن، أو أن يحدث تقاطع مصالح وتفاهمات بين الأطراف الثلاثة ويتوصلوا لتفاهمات ترضي جميع الأطراف من قبيل وضع إدلب تحت إدارة مدنية تحت وصاية (روسية – تركية) أو ( إيرانية – تركية ) وهذا مستبعد لأنه لن يشمل الأكراد حلفاء أمريكا وبالتالي لن ترض عنه، وفي الوقت ذاته لن ترض تركيا بوجود كردي في إدلب، لذلك من غير المرجح أن تتوصل الأطراف المتصارعة لتفاهمات من هذا القبيل، والاحتمال الثالث والأهم هو أن يتم إقناع فتح الشام بحل نفسها وتسليم إدلب لإدارة مدنية في سبيل سد الذرائع على المتربصين بها، وهذا احتمال يبدو بعيد المنال حيث إنَّ فتح الشام وإن قبلت وضع إدلب تحت إدارة مدنية لكنها لا شكَّ لا تفكر مطلقاً حتى بمناقشة موضوع حل نفسها أو التخلي عن سلاحها إلا إذا وقع المحظور واشتعلت جذوة الثورة في إدلب من جديد وقلبت الطاولة عليها وعلى جميع الأطراف وأعادت الأمور إلى المربع الأول وهو احتمال وإنْ بدا خرافياً لكن في ظل ثورة غير تقليدية كالثورة السورية لا يبدو مستحيلاً.
وبانتظار ما ستتمخض عنه هذه الصراعات الصامتة ووسط هذا الخضم الهائل من التجاذبات والضغط، يعيش مدنيو إدلب اليوم تحت رحمة التأويلات والتكهنات بمستقبلٍ لا يبدو مبشراً، لكنه على الأقل سيضع حداً لحالة اللااستقرار التي يعيشها هؤلاء، وقد يُنهي الحيرة والقلق التي تُخيم على حياتهم اليومية التي باتت كالجحيم.