جاد الحق |
التربية ميدان معقد شائك، وبالطبع لست من فرسانه، إلا أني أمتلك من الشجاعة الأدبية ما يجعلني أكتب عن بعض جوانبه التي شاهدتها في حياتي الاجتماعية.
(أحمد) كان شابًا متخلقًا هادئًا، شديد البر بوالديه، وكأي شاب كان يحب كل ما هو جديد، ويريد عيش عصره بتفاصيله، وهنا تبدأ المشاكل بتصادم نظرة الابن التجديدية، مع نظرة الوالدين التقليدية، وليضمن الوالدان كسبهما المعركة يُشهران ضد أحمد السلاح الخطير، وهو “يا بتعمل كذا يا منغضب عليك!!”.
استخدام هذا الإرهاب الفكري من والدي أحمد ضده لكسر شخصيته وتنميطها بالطابع التقليدي الذي يريده الوالدان جعل الغلّ يزداد في صدره، خاصة لو عرفنا أن صراعه مع والديه هو على أمور شكلية ضخماها كقصة الشعر ونمط اللباس، ومع استمرار تراكم القهر في نفس أحمد، وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار.
أتى التهديد بالغضب ليعقبه تهكم أحمد، فصدمة الوالدين من ردة فعله الباردة، يقابلها مزيد من التهكم من أحمد، وهنا وقع المحظور، وانكسر الحاجز عند أحمد وتفلّت من القيود التربوية والدينية التي كانت تضبطه!
ترك أحمد والديه وهاجر، وهو الآن يعيش بعيدًا عنهما قاطعًا الاتصال بهما. هل أحمد عاق، أم أن ابتزاز والديه له بما لمساه من بره بهما هو السبب؟
هناك أبواب من الأفضل تركها مقفولة، وليس من الحكمة الاقتراب منها فضلاً عن العبث بأقفالها الهشّة، لأنها إن كُسرت أقفالها وفُتحت فلن تغلق بعدها.
جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: أدعوت عليه؟ قال نعم، قال اذهب فقد أفسدته.
بعيدًا عن قصة أحمد دعني أسألك سؤالاً، ألا تعجب مثلي من تعلق الشعوب العربية بجلاديها وطغاتها، إضافة إلى كثرة المستبدين الذين تحولهم أي سلطة وهمية إلى وحوش كاسرة تفتك بمن حولها بعد أن كانوا حملانًا وديعة؟
من أسباب هذا الخلل الاجتماعي هو مفهوم خاطئ يغرس في عقولنا منذ الطفولة.
أنت وأخوك طفلان صغيران تلعبان معًا، أخوك أكبر منك، يقوم بضربك، أو يكسر لك لعبة تحبها، تردُّ أنت عليه بفطرتك الطفولية بضربه، وتتشاجران معًا، يأتي والدك ويسمع القصة، فيوبخك أنت لأنك مددت يدك على أخيك الأكبر منك!
وجهة نظر والدك أنك المخطئ لأن الكبير يبقى كبيرًا، وإن ظلمك وتعدى عليك فليس من حقك أن تواجهه وتردعه، وبهذا الأسلوب التربوي العظيم ينتج لدينا مصيبتان، الأولى شخصية استبدادية أنانية متسلطة، والثانية شخصية ضعيفة مهزوزة مسحوقة، وبين هاتين الشخصيتين تتوزع غالبية المجتمع.
إنها عقدة الأخ الأكبر الذي من حقه أن يظلم ويقهر ويطغى، ويجب علينا، كونه الأخ الأكبر، أن نسمع ونطيع ونطأطئ ونصمت، ولذلك رمّز الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984 للسلطة المستبدة الغاشمة بالأخ الأكبر.
قد تتفق معي فيما ذكرته، أو قد تختلف، لكن النتيجة أن الأساليب التربوية البالية التي سُقت لك مثالين منها رأينا إسقاطاتها على أرض الواقع من الخراب المجتمعي الكبير، أفلا يستحق ذلك منا إعادة نظر وتقييم؟!