فاطمة حاج موسى |
ما دام في قلوبنا أمل سنحقق الحلم، ونتحدى الظروف التي فرضتها الحرب علينا. نحن السيدات اللواتي لم توجع إصابات الحرب أجسادنا فقط بل أرواحنا أيضاً، تجرعنا طعم الألم بكل أنواعه وما يئسنا، إننا سيدات سورية الثائرات..
(تهالك أصابعي كان البداية)
“شروف” فتاة ثلاثينية من ريف جبل الزاوية شمال محافظة إدلب، أُصيبت بساعدها الأيمن منذ عام ٢٠١٢م بشظية حارقة إثر قذيفة من حاجز القرميد الذي كان موجودًا على أطراف بلدة المسطومة شمال إدلب مكان تمركز قوات النظام في ذلك الوقت، سقطت القذيفة على منزل عائلتها وكانت إصابة “شروف” خطيرة، وبعد إسعافها إلى المشفى في مدينة سراقب جنوب شرق إدلب، أشار الأطباء إلى ضرورة نقلها للمشافي التركية وبعضهم حذّر من ذلك حتى لا تُبتر يدها.
بقيت بالمشفى وجميع الأطباء يرددون لا أمل من العلاج خصوصًا أنها فقدت بإصابة يدها جزءًا كبيرًا من عظم المرفق وأدى ذلك إلى إصابة عصبية أفقدت أصابعها الإحساس والحركة بالإضافة إلى إصابتها الطفيفة بالصدر.
تقول شروف: “بقيت في المشفى استمع كلمات الأطباء اللاذعة التي مفادها أن مصير يدِي البتر حتى وقت خروجي من المشفى بعد عملية وضعوا لي فيها جهازًا معدنيًا داخل يدي لعلها تتفاعل مع هذا الجهاز ويترمم العظم المفقود”.
بعد شهرين على خروجها من المستشفى ذهبت إلى طبيب آخر أخصائي جراحة عظمية أخبرها أن العصب يحتاج على الأقل ثمانية أشهر حتى يمكن الحكم على كيفية العلاج المناسبة له بعد معرفة كل المستجدات عن العصب.
جف نبع الحياة عن يدها لأكثر من ثمانية أشهر، كانت تنام كل مساء وهي تنتظر عودته، لينبض فجأة في صباح مشرق بالأمل والحياة: “بعد عجزي عن تحريك أصابعي للأعلى وفقدان الإحساس بيدي عاد العصب بقدرة الله.”
بعد عودة الإحساس إلى أصابعها خضعت يدها لعملية تطعيم من عظم الورك وتم تثبيت صفائح معدنية داخلية ما زالت موجودة حتى الآن “كانت عملية صعبة جدًا استيقظتُ بعدها كجثة لا أستطيع أن أحرك جسدي، لذلك أخاف حتى الآن من عملية نزع الصفائح رغم أن أحد البراغي المثبِّت للصفيحة يضغط على عصب يدي ويسبب لي ألمًا حادًا خصوصًا في البرد.”
بعد العملية خضعت لعلاج فيزيائي تنبيه عصبي وأشعة بالإضافة إلى المساج في لبنان أثناء زيارة لأخوتها هناك عند طبيب سوري، فاستفادت كثيرًا وتحسن وضع يدها.
“عانيت كثيرًا بفترة إصابتي، بقيت أكثر من سنة ونصف أحتاج من يهتم بي كطفل صغير، أمي تبدل لي ملابسي وتطعمني..، كانت تلك الأيام عدا الألم الدائم من أصعب ما مررت به.”
بمساندة أسرتها ووقوفهم معها تمكنت من إكمال علاجها وتحسّن وضعها الصحي ممَّا أبعد عنها ألسنة اللغو أثناء إصابتها الموجعة. تزوجت “شروف” وهي الآن حامل بالشهر الثامن بطفلها الأول، تقول: “أقوم بواجباتي الزوجية والمنزلية على أحسن وجه رغم وجود بعض الأعمال التي لا يمكنني القيام بها بسبب إصابتي، كالعمل بالحقل أو غسل الملابس، لكن زوجي يعلم وضعي ومتعاون جدًا معي، لا أواجه أي مشكلة من هذا الجانب.” وأضافت: “من يتهم أمثالي بالعجز والنقص هو بالأساس عاجز العقل والفعل، ما حدث امتحان وبلاء من الله نتمنى أن نجزى على صبرنا وتحملنا يومًا ما..”
(مع أول خطواتي عاد الأمل)
“غصون” ذات الأربع والعشرين سنة من مدينة أريحا شمال إدلب رغم عجزها عن المشي لسنوات إثر صاروخ من الطيران الحربي سقط بالقرب منها وهي في طريق عودتها مع والدتها للمنزل، ممَّا تسبب بإصابة قدميها بشظايا في عام ٢٠١٥م، أدت إلى شِعر بعظام قدمها اليسرى وتفتت القدم اليمنى، تقول عن إصابتها: “خضعت لعملية وضع جهاز تثبيت خارجي ولكن العملية لم تنجح.”
ازداد القصف على مدينة إدلب وخصوصًا المشافي، فحولها الطبيب إلى مشفى باب الهوى الحدودي، فخضعت هناك لعملية وضع جهاز داخلي حتى يتكلس العظم الذي تفتت “بقي الجهاز أكثر من سنة في قدمي ولم تنجح العملية مجددًا بسبب الالتهاب الحاد الذي سببه لعظم القدم، لكن الإنسان يمكنه العيش بلا بَصر ولكن لا يمكنه العيش بلا أمل..”
رغم فشل العمليات الجراحية ورفض جسدها التفاعل مع أي عنصر خارجي لم تفقد غصون الأمل بأن تعود للمشي على أقدامها، بل بقيت بكامل استعدادها بالمواجهة مع جميع الإحباطات تصرخ: “أريد أن أمشي”
خضعت غصون لعملية جديدة بعد نزع الجهاز المعدني، كانت بوضع الطبيب صفائح مثبتة ببراغي معدنية لعل ذاك العظم المفقود يعود ويتصل ببعضه من جديد “بعد مضي عام من العملية تحسن وضعي الصحي وتكلس العظم بعد ثلاث سنوات من إصابتي وبدأت حينها رحلتي مع العلاج الفيزيائي.”
كانت إصابتها صعبة جداً ومعاناتها أكبر خصوصًا أنها بقيت طريحة الفراش لسنوات وهي ربَّة عائلة وأم لثلاثة أطفال يحتاجون من يهتم بهم ويرعاهم “حاولت النهوض كثيرًا لكن لم أستطع، وقف زوجي معي وساندني حتى أصابه الملل، كانت أمي لا تتركني أبدًا تهتم بأولادي وببيتي حتى الآن.” وأشارت: “أصعب ما مررت به هي المشاكل بيني وبين زوجي بسبب وضعي الصحي الصعب لسنوات متعددة رغم مساعدته لي بفترة علاجي لكن المشاكل لم تكن تنتهي، بالإضافة إلى إحساسي القاتل بالعجز. “
نزعت غصون منذ خمسة أشهر الصفائح المعدنية، مازالت حتى الآن تكمل علاجها الفيزيائي وتمشي بخطى ثابتة لكن ليس لمسافات طويلة، رغم مرارة الظروف التي تجرعتها لكنها صلبة قوية الإرادة والإيمان “أحمد الله أني عدت إلى ممارسة حياتي بشكل شبه طبيعي، وأدعو الله دائمًا بمجازات من كان سبباً لكل آلامي ومواجعي التي مازلت أتذوقها، وسأكمل علاجي الفيزيائي حتى أشفى.”
شروف وغصون تمثلان جزءًا كبيرًا من نساء سورية اللواتي عانينَ بظل الحرب من شتى أنواع القهر والظلم بصرخات موجوعة أصمت آذان المجتمع الدولي وأعمت أبصارهم.