غسان جمعةإنَّ الاصطفاف خلف عدة أشخاص للوصول إلى صراف آلي أو ضمن رتل للحصول على (أيفون) بأحدث إصدار من أحد متاجر (أبل) هو أمر حضاري ولا يختلف عندي أيضاً للحصول على سلة الإغاثة، فجميعها حوائج بغض النظر عن تصنيفها، إذ لا بدَّ لنا حين نريد الحصول عليها أن نكون منظمين ومنضبطين، فكل المجتمعات من النمل والنحل بداية إلى البشر نهاية تمارس الالتزام والتقيد بالنظام لتحقيق العدالة والمساواة.لكن ما يميز الاصطفاف في بلدي وجود عامل نفسي محطِّم يعتري الوجوه وكأنَّ الناس فيه ينتظرون حتفهم، وقد ظهرت هذه الحالات أمام بعض الجمعيات أو المنظمات، وما تميز به هذا المشهد التدني من مقدار الكرامة مقارنة بأرتال المجتمعات الأخرى.وقد بدأت بعض المجالس أو أغلبها تلعب هذا الدور في الأحياء والقرى بعيداً عن تفاصيل آليات التوزيع ومعايير الاستحقاق والكمية، فهناك أمر مرتبط بسلة الإهانة يبدأ من أسلوب المعاملة للنازحين والمحتاجين خلال الانتظار للوصول إلى طاقة الفرج أو شباك الاستلام مروراً بالتوثيق المُذل الذي لم تعد الصورة كافية فيه، بل تطلب الأمر تسجيل فيديو توثيقي.إضافة إلى مطالبة الأطفال والمساكين بحملها بأشكال معينة وطرق خاصة فيها من الأذى والذل ما يفقد المتبرع والقائم على تسليمها أجر مثوبتها، لما توقعه من أذى وإحراج على نفس المستحق.وقد تذكرت قوله تعالى “لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى “وكما روي عن بعض السلف أنَّهم كانوا يبسطون أكفهم للفقراء لتعلو أيديهم فوق أيدي المتصدق.البعض يرى بالتوثيق ضرورة وهو ليس بخلاف، لكن ما يحصل من مساومة خلف تلك الابتسامة لا يعلم به إلا الله والمنظمين، فالمحتاج لا أظنُّ أنَّ سعادته عارمة بهذا القدر بربطة الخبز أو قرص التمر، لعله توثيق في نادره وتوبيخ بغالبه والله أعلم.وقد كانت أمُّنا عائشة وأم سلمة توصيان رسول الله بحفظ ما يقول المتقبل لصدقتهما كي يدعو له بمثله، خشية أن يرد المحتاج جميل الصدقة بدعاء لهما.وأمَّا التهديد بإيقاف التوزيع وطرد الجميع من أمام البلدية أو المجلس أو المدرسة فهو بحدِّ ذاته أسلوب من انقلبنا على ظلمه، فتذكرك أسلحتهم وصرخاتهم وحشر النساء والأطفال عنوة بالرتل بما كان يفعله عناصر الأسد مع الناس أمام مراكز توزيع الخبز والغاز. إنَّنا مع الحزم استثناء، ومع التوجيه والإيضاح، وليس مع الصراخ والغضب في وجوه الناس.ولذلك عليهم أن يعرفوا أنَّ من يحارب النظام عليه ألَّا يأتي فعله أو قوله أو يتبع نهجه، فالثورة بالنفس والعقيدة وليست بالسلاح فقط.إنَّ إيصال الإغاثة إلى مستحقيها قد لا يكلف من قيمتها الإجمالية الشيء اليسير، ولكن هذه الخطوة تحفظ للمحتاجين الكثير الكثير.قال الله تعالى: ” الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سراً وعلانية ” فعلينا كمسلمين أن نبتغي طرقاً لإيصال هذه المساعدات أقل علانية تخفيفاً للإحراج والتعب، وحفظاً لماء وجوههم وحيائهم.إنَّنا قد نأكل رغيفاً مغمساً بالدم أو الألم، وقد نستسيغه يابساً، وننزع عنه عفن هذه الحياة بأيدينا، ولكن تأبى أنفسنا أن تأكله بذلة، فأوَّل ما صدحت به حناجر المساكين والفقراء هو “هيهات منَّا الذلة ”