منيرة حمزة |
في سُنّةِ التهجير والغربة ورحلة البحث عن الاستقرار في الشمال السوري، عليك ألا تألف المنزل أو تحبه أو تعتاد على تفاصيله، فالمنازل هنا مؤقتة لا تعرف الاستقرار كالفرح تماماً، قد نغادرها في أي لحظة، أو عندما يحين وقت الرحيل أو النزوح الداخلي ضمن المدينة الواحدة.
إنه البيت الخامس أو ربما السابع، لم أعد أذكر العدد تمامًا، أو المفاتيح التي نسختها لكل منزل سكنته، لكثرة البيوت التي استأجرناها منذ تهجيرنا قبل عامين.
كل ثلاثة أشهر يُطالبك صاحب المنزل أو وكيله بالإخلاء، فقد عُرض عليه مبلغ أكبر من الذي تدفعه، ولا يهمه ظروفك المادية إن كانت تسمح بزيادة الأجرة أم لا،
إنما يهمه أن يحقق مكسبًا أكبر من مستأجر آخر غيرك، وهكذا تمضي الأيام، لا تفتأ تعتاد على الحي الذي سكنته، وتألف عيناك الطريق الذي تسلكه كل يوم، وتتعرف على الجيران، حتى يدق جرس العقد المبرم بينك وبين الوكيل أو ملاك البيت معلناً انتهاء المدة المتفق عليها والتي في أحسن الأحوال لا تتجاوز ستة أشهر، وتلك المدة غالباً ما تكون متعمدة من قبل المؤجر لتحقيق مكسب أكبر فيما لو عُرض عليه أو رفع السعر بعد هذه المدة إن رغب المستأجر بالبقاء لقاء تجديد العقد.
هذه المشكلة على صغرها قد لا تبدو بالنسبة إلى الكثيرين مهمة أو تستدعي الحديث عنها، لكن لا يشعر بها إلا من عاشها واعتاد حزم أمتعته كل عدة أشهر، فضلاً عن صعوبة إيجاد المنزل المناسب، لارتفاع الكثافة السكانية ولاسيما في المدن، ومن يجد منزلاً في غفلة عن عيون المكاتب فهو محظوظ جداً كونه وفر على نفسه أجرة المكتب التي تصل غالباً إلى أجرة شهر. وبما أن حركة النزوح في ظل تصعيد القصف من قِبل النظام كثرت بات من الصعب إيجاد المنزل حتى عن طريق المكاتب العقارية.
بعد عدة أيام من البحث المستمر عن منزل مناسب للسكن، بحيث لا يكون قبواً رطبًا لا تدخله الشمس، ولا في طابق عالٍ تستنزف أدراجه الطويلة كل طاقة جسدك حتى تطأ قدماك عتبته، وجدنا منزلاً يريح القلب مشمساً ومتوسط العلو في منطقة سكانية مأهولة، وخلتُ أن الحظ قد ابتسم لنا هذه المرة، فكل شيء على ما يرام لا يوجد علّة كما اعتدت في كل مرة.
انتهينا من التنظيف والنقل والترتيب وتجهيز الكهرباء والماء ولوازم المنزل الاعتيادية ودفع الآجار والتأمين، وأمضينا يومين في تعب وجهد يحتاجان منا أيامًا للراحة والهدوء.
وما إن حل المساء حتى احتل المكان ضجيج رهيب لا يعرف السكينة، وعلت أصوات المولدة الكهربائية الضخمة أرجاء المنزل بل أرجاء الحي كله، فهي تسكن الحي قبلنا ونحن ضيوف عندها وعندهم.
يا إلهي! أين سأجد الراحة والسكينة بعد اليوم؟! أربع ساعات متواصلة من الضجيج لا تكاد تسمع فيها صوتك، كيف سأتحمل هذه الأصوات كل ليلة ولم أكن أعرف أنها مسألة وقت فقط! وبعد مضي ستة أشهر ألفنا صوت الضجيج واعتدناه كما اعتدنا من قبل صوت القذائف والصواريخ، واعتدنا أصوات البكاء في رؤوسنا والحزن والغربة.
اليوم أغادر هذا المنزل بحلوه ومره، بسكينته وضجيجيه، وكنت أتمنى ألا أغادره بعدما ألفته وأحببته رغم صخب المولد الكهربائي الموجود في الحارة، ولكن هذه هي متلازمة التهجير التي تحدثنا عنها علينا ألا نألف الأشياء أو المنازل، فإننا بأي لحظة نغادرها، كما غادرنا بيوتنا وأرضنا قبل أكثر من عامين من ريف دمشق..