جاد الغيث |
لم يكن الباص الذي أخرجني من حلب أخضر اللون، وربما كان ذلك أفضل من الناحية النفسية لأننا في حلب المحاصرة قبل مغادرتنا لها، كنا نشعر بالقبض والذعر من هذه الكلمة المشؤومة مع أن الكلمة لا لها ولا عليها.
فالباص الأخضر كان وسيلتي للذهاب إلى الجامعة أيام الدراسة، وكان لي فيه بعض المواقف الطريفة، ولكنه أصبح مثيرًا للهلع بعدما كان يومًا ما سداً مناسبًا لحمايتنا من رصاص قناص نظام الأسد.
وكأن انطباعنا عن الكلمة يرتبط بتغير وظيفتها، فالباص الأخضر عبارة غدت مصطلحًا له أكثر من معنى حسب المكان والزمان.
من صعدوا بالباص الأخضر تركوا وراءهم ممتلكاتهم وذكرياتهم لتعبث بها أيدي إخوة لهم يشاركونهم الإنسانية والدين، لكنهم انقلبوا عليهم باسم الأسد.
ولذلك أحرق الكثيرون ممَّن صعدوا الباص الأخضر سياراتهم وبعض ممتلكاتهم وذكرياتهم المطبوعة على الورق فهم لا يريدون لأحد أن يعبث بها.
ومع أن الباص الذي كان من نصيبي يوم خروجي من حلب أبيض زاهيا مكيفًا مخصصًا للرحلات بين المحافظات السورية وليس باصًا للنقل الداخلي، لكنه مع ذلك كان مثيرًا للهلع والقهر معًا، وزاد في الأمر سوءًا أنَّ سائق الباص كان عدوانيًا فظًا كأنه أُجبر على نقل المدنيين المحاصرين الذين لا ذنب لهم في شيء، كانت عيناه تشع بالحقد، وكان كلامه سكينًا حادًا يطعن به الجميع خاصة الأولاد الصغار كلما تكلموا بكلمة أو طلبوا ماء ليشربوا، فشتان بين لون الباص الأبيض وقلبه الذي امتلأ سواد من معاملته وعدم توقفه عن التدخين واللعن طوال الطريق الذي استغرق أربع ساعات للوصول إلى نقطة كانت تسمى الراشدين الخامسة.
جميع من خرجوا من حلب الشرقية سجدوا لله شكرًا على وصولهم سالمين إلى تلك النقطة، والكثير منهم بكوا بحرقة امتزجت فيها الفرحة بالقهر في مزيج متعب ومحير في آنٍ معًا، فالنفس تحب الحياة وترغب بالسلام والأمن، وقد أتيح ذلك لنا بعد أن وصلنا بسلام وخرجنا من فم الموت، لكننا لم نعد نشعر بطعم الحياة بدون حلب بشوارعها المهدمة وحاراتها الضيقة المعتمة وحزنها وألمها وبكل ما فيها من خوف وذعر.
مع كل ذلك كانت لحلب الشرقية بهجتها وألقها والكل يدرك ذلك، خاصة أولئك الذين سكنوا المخيمات بعد أن تركوا بيوتهم، وحتى من سكنوا في المزارع المنتشرة بكثرة في ريف حلب، يشاركني الرأي نفسه الكثير من المهاجرين في تركيا وأوروبا ممن يدفعهم الحنين إلى حلب للبكاء كل ليلة قبل النوم وهم يسترجعون صور المدينة المدمرة في خيالهم.
يالله كم الوطن عزيز وغالٍ! والمدينة التي خلقت فيها وأحببتها بكل عيوبها ومحاسنها!
أما سائق الباص فلم يكن ليدرك كل تلك المعاني الرائعة والموجعة في مشاعر ركاب حافلة الرحيل عن حلب، فكان كالجلاد يجلدني بنظراته كلما نظرت إليه، فمن سوء حظي كنت آخر من صعد الحافلة، وكان وقوفي طوال الطريق بجانبه، لم يكن هناك مكان للجلوس أصلا، فالباص ممتلئ بالأرواح المعذبة التي ترغب بالانطلاق وتخشى الهلاك في طريق يشبه الصراط ربما ينتهي بالوقوع في الجحيم كما حصل مع باصات خضراء وسيارات مدنية غادرت قبلنا أُهين أصحابها واعتقلوا وضربوا وسُرقت أموالهم وقُتل منهم اثنان رميًا بالرصاص.
كل هذا يعرفه تمامًا العابرون في رحلة الولادة الجديدة، لكن لا خيار لهم فإما موت وأسر، وإما حياة أقرب إلى الموت دون حلب.
والله لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت، وما خرجت، وما خرجت.