علاء عبد الرزاق المحمود |
” لم نكن دراويش المولويّة أو أصحاب طريقةٍ وبدعةٍ، إنّما عشّاق للشام وتراثها، وياسمينها وأزقتها، نؤدي المولويّة كفلكلورٍ شاميٍّ لا أكثر، وننقل رسائل الأجداد للأبناء والعالم.”
هكذا بدأ الأخوان (أبو عهد وأبو علي) الشاميّان اللذان يمتهنان المولويّة والدوران في الحفلات أمام الحضور مرتديان الزي التقليدي الخاص بهذا الفنّ التراثيّ القديم.
” أبو علي” شاميّ التولد لعام 1989 في الشاغور أحد الأحياء القديمة التي تتميز بعبق الياسمين وأزقتها الضيّقة، بطباع أهلها الذين استمدوا عزّتهم وشموخهم من قاسيون الأشم، وُلد لأسرة شاميّة محافظةٍ، كان أبوه متعهد حفلاتٍ وموالد دينيّةٍ.
يكمل أبو علي بعد أن أخذ زفرةً طويلةً يسترجع فيها ذكرياته من أقصى مكان في صدره: “في البدايات كان أبي يصطحبنا معه إلى الموالد، كان صاحب صوت شجيٍّ، وكنا نرافقه لما في الأمر من متعةٍ لنا كوننا أطفال بعمر السبع سنوات، نراه وفرقته كيف يؤدون وينشدون، كيف يبادلون الناس الابتسامات وكيف يحتفي بهم الحضور ويدخلون السرور إلى قلوبهم، ونراقبهم حين ينصرفون وعيونهم تراقب كلّ شخص يغادر من الفرقة على أمل اللقاء.
بدأ أبي بتدريبي منذ الصغر لمّا أحس بعيني الصغيرتين حبّ المولويّة ومراقبتي لأصحابه الذين يرتدون هذا الزيّ، كان عمري آنذاك حوالي السبع سنوات، كنت أشعر بالدوار قليلاً، أترنح وأسقط على الأرض في النهاية بعد وصلةٍ لم تتجاوز الثلاثين ثانيةٍ، لكن فيما بعد اعتدت على الأمر تباعاً، واستطعت أن أنجز الفقرة كاملةً التي تمتد لخمس دقائق متتاليةٍ وأنا لم أتجاوز العشر سنين، كلّ ذلك جاء من اهتمامه بي وشغفي الخاص لتعلم هذا الفن وهذه المهنة التي أصبحت جزءًا من حياتي فيما بعد، وإلى الآن مازالت تتوسد صدري وتعيش بين أحلامي حتى بعد خروجي من الشام وتهجيرنا منها كما هو الحال الآن.
لم أكتفِ بالعمل مع والدي فيما بعد، بل بدأت بتدريب أخي” أبو عهد” الذي يصغرني بخمس سنين، وأصبحت أصطحبه معي لبعض الحفلات والمهرجانات المحليّة، بعد أن أصبح قادراً على العمل وبدأت آثار الدوار الناتج عن الدوران المتتالي تتلاشى وأصبحت المولويّة بالنسبة إليه عادةً.
في عمر الرابعة عشر أسست مكتباً خاصاً لي وبدأت بمشروعي الخاص، أسست ذلك المكتب في الشام، وقمت بطباعة بعض الإعلانات البسيطة التي تعرّف الناس بالمولويّة، ووضعت بعض أرقام التواصل آنذاك وبدأ العمل يكبر شيئاً فشيئاً، لم يمانع أبي ذلك بل كان مسروراً جداً وبتّ أقول له: أنا المنافس والرقم الصعب لك، يوماً ما سأكون أنا المتعهد الأقوى والأشهر في الشام، كان حلماً وردياً ما يُقدر الله له أن يكتمل بسبب الأوضاع الأخيرة التي حلت بالشام وبسورية عموماً منذ اندلاع الثورة .”
يكمل ” أبو عهد” الشقيق الأصغر بعد أن تلألأت عينا أخيه بالدموع لفرط الحنين للشام وأهلها بعد ثلاث سنوات من حلوله في ربوع إدلب الخضراء: “لم تكن المولويّة بالنسبة إلى عائلتنا طريقةً وبدعةً نسير فيها خطى الصوفيين القدماء فيها، أو نستمد قدسيتها من طابع دينيّ، بل كلّ ما في الأمر أنّنا أحببناها ووجدنا فيها تميّزاً عن الجميع، حيث الأنظار تتوجه إليك منذ اللحظة التي تظهر فيها على الحضور إلى اللحظة التي تنتهي فيها من أداء الوصلة المولويّة. “
يكمل” أبو علي” بعد أن مسح عبراته التي سالت على خديه: “منذ أن تم تهجير الشاميين ووصلنا إلى إدلب، لم أستطع أن أمارس المولويّة هنا بالحفلات الدينيّة فضلاً عن عدم وجود هيئات ثقافيّةٍ أو مهرجاناتٍ تراثيّةٍ، مع العلم أنّ هذا التراث والفلكلور لا يوجد إلا في الشام وحلب حيث التكية المولوية المعروفة (بالملاخانة) التي تضم رفاة كبار هذا الفن، هذا بالنسبة إلى سورية، وتوجد المولوية أيضًا في تركيا بولاية قونية التي هي أصل المولوية، وبعض مناطق مصر أيضاً.”
هنا في إدلب البيئة الثقافية مختلفةٌ تماماً، ينظر الناس هنا إلى المولويّة على أنّها بدعةٌ صوفيّةٌ بامتياز، وقد دخلت ببعض السجالات والنقاشات فيما يخص هذه المهنة التي أرى فيها نقلاً لتراث شاميّ لا يجب أن يندثر في ظل هذا التطور الحاصل ويجب المحافظة عليه من التلاشي.
منذ ثلاث سنوات بدأت العمل في أحد المطاعم الشعبيّة هنا في إدلب، لأضمن كسب القليل من المال حيث كانت المولويّة مصدرًا جيداً للرزقٍ، يضمن لي ولأسرتي أسباب العيش والاستقرار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أخي أبو عهد.
تركت في الشام ثماني بدلات، مختلفةً ألوانها ما بين الأبيض الشائع والأخضر الصاخب والملونة، بالإضافة إلى بدلات ليزريّةٍ مزودةٍ بإضاءة متنوعةٍ، لم أستطع إخراج أيّ منها، حيث خرّ سقف البيت عليها بعد أن تم استهداف المنطقة السكنيّة التي لجأنا إليها في الغوطة منذ بداية الأحداث، حيث إنّ الاختلاف في الأولوان والاستخدام راجعٌ إلى أذواق الحضور وطلب الشخص، والمناسبات أيضاً سواء كانت محليّةً أو عالميّةً، ويمكننا في ذات الحفل تأدية أكثر من وصلةٍ فنيّةٍ بعد أخذ فترات استراحةٍ بينها، ويتراوح سعر البدلة الواحدة ما بين الخمسمئة والألف دولار، هذا مما يجعل اقتناءها صعباً ومحالاً في مدينة إدلب، فضلاً عن عدم وجود تقبلٍ لهذا الأمر سوى من الشاميين أنفسهم وعدم وجود منافذ للبيع أو للاستيراد، لكن يُعد اللون الأبيض فيها هو الأساس للدلالة على الصفاء والنقاء، وارتبطت المولوية في أصل نشأتها بمدينة قونية بتركيا ولها طابع صوفي خاص، إذ إن كل حركة في المولوية لها دلالات.
حالياً أقوم بالإنشاد في بعض المناسبات الخاصة للأصدقاء والجميع يسألني: أين هي بدلات المولويّة؟ ويجرّنا هذا الحديث لنقاش يطول تنتهي الحفلة ولا ينتهي الحنين والشوق إلى تلك الأيام والذكريات.
أتمنى الآن أن تعود تلك الأيام لتأسيس عملي الخاص وتشكيل فرقة من جديدٍ، وأن أقوم بنقل هذا التراث إلى سورية المصغرة فضلاً عن طموحي بنقل هذا الفن للعالم مثلما كنت أقوم به منذ أكثر من عشر سنين، حيث وقعت عقداً مدته عشر سنوات مع وزارة السياحة في عام 2003 وكان المطلوب منّا تأدية حفلات مولويّةٍ في جميع أنحاء العالم، وكان ذلك بالنسبة إلينا أمراً اعتياديّا، حيث كنّا نسافر ثلاث مراتٍ أو أربع إلى أوربة أو دول الجوار كالإمارات العربية، وبعض الدول الأخرى، كان الجميع يُسعد لهذه الوصلات الفنيّة، ويسألنا المترجمون الخاصون بنا الكثير الكثير من الأسئلة عن طبيعة هذا الفن، وكيف نستطيع الصمود كلّ هذه الدقائق مع هذا الدوران، ونجيب كلّ مرّة: إنه الحب والهوى.”