بقلم: زمرد أبو زيد
يعيش اﻹنسان على هذه الأرض متقلبا بين عطائها ومنعها وحلاوتها ومرارتها، ولقد تمرُّ عليه أيام يشعر فيها أنَّ الدنيا طوع أمره، يحركها كيف يشاء، ثمَّ تمرُّ السنون وتأتي عليه أيام يحسب فيها أنَّ الدنيا تصارعه، وتفرُّ من يديه فرار الطريدة من صائدها.
كتب على اﻹنسان أن يعيش هذه التقلبات ليرى حاله فيها، فإما صبور شكور، وإما يؤوس قنوط، ولو أنَّ حياته بقيت تجري على نسق واحد من الحزن أو الفرح أو النعمة أو الفقر أو النصر أو الهزبمة… لما تبينت نفسه الحقيقية بأحوالها كلها، وإذاً لظلت مختبئة أو نائمة في جوانحه.
وهنا تأتي الامتحانات والابتلاءات لتميز الخبيث من الطيب، ولتفتن النفوس فيتميز صحيحها من سقيمها، ولذلك فإنَّ السنن اﻹلهية قررت هذه التقلبات في حياة البشر والمجتمعات واﻷمم.
باﻷمس كانت ثورة الشام تعيش في سعة من الرزق والعطايا، وضربت حصارا على المناطق التي يحتلها النظام فأربكته وأظهرته في موقف ضعيف، ثمَّ امتدت على رقعة جغرافية واسعة. وقد تمحصت الصفوف في تلك الفترة، فتميز الصادق الذي لم تغره الدنيا من الكاذب الذي يعيش من أجل دولارات، وتميز المؤمن الذي يبيع حياته من أجل دينه وأمته من المتمسلم الذي يكور عمامته ويطيل سبحته ويبيع دينه وأمته من أجل شهواته! ثم توالت اﻷحداث، فإذا بالحصار يضرب على ثورة الشام في دمشق وريفها، ثم يهددها في حلب بمحاولة قطع طريق الكاستيلو، لتبدأ فترة الشدائد والمحن، ولتعاد عملية التمحيص، ولكن على نحو مختلف جديد.
وتخبرنا السنن الربانية وتجارب السابقين أنه سيكون هناك فرقاء، الفريق اﻷول سيهول من قوة العدو وسيحاول تثبيط المجاهدين، وسيدعو الجميع إلى إلقاء السلاح والاستسلام. والفريق الثاني سيصيبه الخور، وسيدخل الرعب إلى قلبه، وسيقول: إنَّ ثورة الشام لتعيش آخر لحظاتها. أما الفريق الثالث فهو فريق الإيمان من أهل الثبات واليقين، الذين سيقولون: “إنَّ معي ربي سيهدين”
“فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين “.
لقد بلغت القلوب الحناجر عندما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنوده يزحفون نحوهم، لا يفصل بينهم فاصل، إنَّ الفريقين يتشاركان في فعل الرؤية، وقد دلَّ على ذلك صيغة المشاركة في الفعل (تراءى)، ففرعون وجنوده وبشار وجيشه النصيري الفارسي يتقدمون نحو الجماعة المؤمنة يريدون النيل منها وإعادتها إلى حظيرة العبودية، وموسى مع أصحابه قلة أمام جنود الباطل، دلَّ على ذلك جمع القلة (أصحاب).
وأمام هذا المشهد الحركي المثير الذي يجعل ضربات القلب متسارعة، تحدث النفس صاحبها بأنَّ عصابات النصيرية قد دخلت حلب، ويقول من خفي عنه الدرس اﻹلهي “إنا لمدركون” بهذا التأكيد باستخدام (إنَّ واللام المزحلقة) يتم الجزم بوقوع المصيبة، ويعكس حركات النفس الداخلية المتوترة التي ترفع الراية البيضاء لفريق فرعون وجنوده ولفريق بشار وشبيحته.
ولكن رد فريق اﻹيمان سيكون سريعا، ليربط الحدث اﻷرضي المزلزل بمن بيده كل شيء، وليجعل علاقته كلها بيد الله عز وجل، فيستسلم المجاهدون لربهم ويكملوا طريقهم وجهادهم، محسني الظن بالذي قال ” وإنَّ جندنا لهم الغالبون”.
“قال كلا..”، ليسد عليهم منافذ الشك والريب، ويزجرهم ويبعد عن أذهانهم كل تفكير بالتراجع أو الانسحاب التكتيكي لفسح الطريق لعصابات النصيرية. ” إنَّ معي ربي سيهدين” إنه تأكيد الفئة المؤمنة المتوكلة على ربها، المتيقنة بموعوده، الصابرة على جراحها من أجل إظهار دينها ونصرة معبودها، فباﻹضافة إلى استخدام مؤكدين في الجملة هما إنَّ وسين الاستقبال، نجد توكيدا من نوع آخر، وهو قوله ” معي ربي ” مقدما ظرف المصاحبة ليستشعر بالرعاية الإلهية التي تهدئ النفوس الثائرة وتبعث كل الطمأنينة في قلوب المؤمنين، إنَّه توكيد النصر والحفظ والرعاية والنجاة والغلبة والهداية والتمكين والاستعلاء واﻷمن والرزق وبقاء الفئة المؤمنة وهزيمة الفئة الكافرة.
” إنَّ معي ربي سيهدين” فلن ترفع لبشار راية ما دام الحق موجهنا ومرشدنا، وما دامت الروح اﻹيمانية تسكن اﻷجسام، وما دامت اﻷنفس تستشعر عموم معنى الربوبية وخصوص معنى الناصر فيها، عندها سترى الفتوحات الربانية على أيدي المجاهدين، كما جاءت المعجزات على يد موسى عليه السلام، فأهلكت فرعون مصر كما ستهلك فرعون الشام بإذن الله.
“وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثمَّ أغرقنا اﻵخرين”.