الكاتبة السورية في صحيفة “غرتشك حياة” التركية الأسبوعية، عبير النحاس، سلطت الضوء في مقالها الجديد الذي كان عبارة عن مقابلة، على نموذج يُحتذى به من الطلاب الذين هاجروا من وطنهم نحو العدم نحو المجهول. أجرت الكاتبة عبير النحاس حوارًا شيّقًا ومليئًا بالفائدة والنضج مع الطالب السوري أحمد عبد الخالق كنجو، والذي بدوره سيحكي لنا عن تجربته الرائعة بدءًا من وصوله تركيا حتى وصوله لمرتبة الشرف “الأولى” في جامعته.
أحمد عبد الخالق كنجو، ابن ريف حلب الغربي، من مدينة “دارة عزة” بالتحديد، المدينة الصغيرة الشامخة بقلعتها وجبلها، القريبة من الحدود التركية، ولدت فيها عام 1996 وحرمت منها عام 2012 .
كنت أعيش في وسط قروي بسيط، أبي كان قاضيًا في محكمة حلب الجنائية وأمي كانت تحيك الصوف وتخيطه.
كانت حياتي مستقرة نوعًا ما، ولقيتُ من والدي حسن التربية وكثر العطف والحنان.
اتجهت للدراسة في الإعدادية الشرعية ومن ثم انتقلت إلى الثانوية العامة لأكمل مسيرتي العلمية في الفرع العلمي حيث أني كنت أرغب في دراسة الهندسة
بدأت الحرب الحقيقية عندي عام 2009 حين توفي والدي إثر حادث مروري أليم أدى إلى ارتقائه، ومعه هاجرت معه.
متى بدأت رحلة الهجرة؟
أجبرت على ترك وطني في عام 2012 بعد عناء وشقاء من الحملات الهمجية التي كانت تمارسها قوى الأمن التابعة للدولة، حيث كانت تكثر من عمليات المداهمة والاعتقالات ليلا دون أن تميز بين صغير أو كبير أو امرأة.
تركت مقعدي الدراسي الذي لازمته 11 سنة دون كلل أو ملل، تركته وفي عيوني الدمع وفي قلبي الحزن، كان لا بدّ من أن أضحي بهذا المقعد كي أحافظ على أمان أخواتي وأمي الذين عاشوا سنة كاملة من الخوف دون وجود والد يحميهم أو يخفف عنهم.
توجهت وعائلتي إلى تركيا مؤمنين بحسن ضيافة أهلها وكرمهم وتخلقهم بالخصال الحميدة وانتماء روح الأخوة لديهم، بالإضافة إلى توفر المناخ الملائم لإكمال الدراسة عندهم نظرًا لتقدمهم علميًّا وفي كافة المجالات.
الرحلة والصعوبات التي واجهتك؟
رحلة العبور من بحر الظلم إلى بر الأمان كانت تحمل في طياتها الكثير من الألم، فالبعد عن الأقارب والعيش في خيمة صغيرة جدًّا بيضاء المظهر سوداء الجوهر، والانقطاع عن الدراسة، والعيش في وسط غريب في لغته، وتحمل جحيم حرّ الصيف، والنوم على أمل العودة الباهتة كله كفيل بأن يقتل الروح في الجسد، فيصبح الإنسان روبوتًا لا يفرق بين صباحه ومسائه، همه الوحيد أن يبتكر أشياء ليتوسع في خيمته الضيقة وأن يعمل على تقليل الحر ريثما يحل المساء .
كيف احتفظت بالحلم؟
مهما فعلت الحياة فروح الحلم الذي تربيت عليه لا تنطفئ. لقد كان والدي يكثر من قوله لي بيت الشعر الجميل
” لا تحسبن المجد تمرًا أنت آكله…لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا “
كنت كلما وهنت تذكرت ما كان يقوله، فروحه كانت لا تفارقني طيلة عجزي وغياب الأمل عندي.
عاد الأمل بافتتاح مدرسة داخل المخيم استطعت فيها أن انهي الثانوية في ظل ظروف صعبة جدًّا ترأسها قلة الكادر التدريسي وانعدام الكتب وقلة التنظيم الاداري بالإضافة إلى جحيم المعيشة السوداء.
التحقت بعدها مباشرة بمعهد اللغة التركية واستطعت إنجاز تعلمها خلال سبعة أشهر حيث حصلت على أعلى شهادة فيها وهي ال C1.
كان نجاحي في نيل شهادة اللغة التركية مفرحًا جدًّا فهذه الشهادة تعتبر بوابة خروجي من المخيم المظلم إلى عالم أقل قساوة تتوفر فيه مقومات الدراسة السليمة.
الصعوبات التي واجهتك في دراستك الجامعية باللغة التركية؟
لعل أصعب الأشياء التي مررت بها هي تأمين القبول الجامعي. فلقد كنت حينها جاهلا تمامًا بنظام المفاضلة على الجامعات. لا أعرف متى أسجل ولا كيف ولا أين ولا أعرف أسماء الجامعات.
انعدام الانترنت وضعف التكنولوجيا في المخيم كان عائقًا كبيرًا أمام عملية البحث والاطلاع، إلى أن تعرفت على أستاذ تركي جزاه الله خيرًا قام بمساعدتي في التسجيل على جامعة يالوفا، حيث فعلا تم قبولي فيها في فرع الاقتصاد الذي لم أكن أحبذه، ومع ذلك عزمت الخروج من المخيم والبدء بالدراسة.
ذهبت إلى يالوفا وفي جيبي بضعة من النقود بدأت تنفذ شيئًا فشيئًا في ظل غياب المردود المالي وغياب الأب الداعم. بدأت حينها أبحث عن منحة علي أستطيع بها إكمال ما بدأت به ولكن محاولات كانت تبوء بالفشل طالما كنت أتقدم للمنح ويتم رفضي باعتباري أجنبي ولا يحق لي المفاضلة.
وقبل أن أقرر العودة إلى المخيم أتتني رسالة عبر بريدي الإلكتروني، كانت من قبل ” Yabancı Türkiye Bursları” مكتوب فيها أنه تم قبولي في فرع الهندسة الكيميائية في جامعة ” Yüzüncü Yıl” في ولاية “فان” التركية، بالإضافة أنه سيتم تخصيص مرتب شهري وسكن بالمجان لي أثناء دراستي.
لم أصدق يومها ما قرأت، فلم يكن منطقيًّا أن أسحب قيدي من جامعة يالوفا وأذهب إلى أقصى شرق تركيا معتمدًا على رسالة بريد!
والفضل مجددًا في القبول يعود لآنسة اللغة التركية، فهي من قام بالتسجيل لي على هذه المنحة من قبل سبعة شهور من ذلك الوقت وأنا كنت قد نسيتها وقطعت الأمل منها إلا أن الله على كل شيء قدير.
الحاجة حالت بيني وبين أمري وقررت حينها الذهاب إلى “فان” متفرّدًا بقراري حاملا مسؤولية قراري بنفسي بعيدًا عن نصيحة الأب ومتبعثرًا بين كلمات الأم المرهقة بالمرض.
حكاية تفوقك؟
جلست على مقعد كلية الهندسة الكيميائية متأخرًا عن زملائي شهرًا ونصف الشهر، كنت أدخل إلى الدرس ولا أفهم منه إلا القليل ، كانت 70% من دراستي هي ترجمة لما كنت أكتبه من جمل ناقصة خلف الاستاذ في المحاضرة.
عانيت كثيرًا في السنة الأولى من ضعف لغتي التركية وغرابة الوسط الذي كنت فيه.
إلا أن صديقي التركي مراد لم يكن ليتركني وحيدًا فلقد كان عوني في كل شيء، وصابرًا على ثقل لساني وجهلي بالمصطلحات التخصصية.
بدأت أتقدم في دراستي شيئًا فشيئًا بمساعدة مراد إلى أن حققت معدلًا عاليًا في الفصل الأول من السنة الثانية، كنت أجلس ساعات طويلة على الدراسة وأحيانا ما كنت أضطر أن أصل ليلي بنهاري حتى أصل إلى منصة التكريم. استمر تقدمي حتى أحرزت المعدل التام أي 4 من 4 في الفصل الثاني من السنة الثالثة.
كنت حينها الأول على فرع الهندسة الكيميائية والرابع على كلية الهندسة كاملة.
لم أكن حينها راضيًا عن ترتيبي على مستوى الكلية، لذلك قررت أن أعيد بعض المواد التي كنت قد نجحت فيها بعلامة قليلة فأرفعها.
وبذلك كنت قد أحرزت المركز الثالث على كلية الهندسة في نهاية السنة الأخيرة، وتم تكريمي بشهادة الشرف العالي حائزًا المرتبة الأولى على فرع الهندسة الكيميائية والمرتبة الثالثة على كلية الهندسة كاملة، ولا أنسى دموع الفرح في وجه أمي حين رأتني على منصة التكريم ذلك اليوم.
ما هو الحلم القادم ؟
مساحة الحلم عندي تتجدد بعد كل نجاح، ولا أرى حدودًا لها إلا أني أنوي الالتحاق بالدكتوراه بعد إنهائي الماجستير الذي أدرسه الآن في جامعة اسطنبول، كما إني عازم على إخراج عائلتي من المخيم وإحضارهم إلى إسطنبول في حال توفرت فرصة العمل والدراسة في آن واحد .
أما على المدى البعيد فإني أتطلع إلى بناء جامعة تقوم بتخريج جيل واعٍ، بعيد عن جو الحرب والسلاح يتوسم بالنبل ويتمتع بروح العلم والمعرفة.
وسأعمل جاهدًا على خدمة الدولة التي أنقذتني من بؤرة الجهل والتطرف والتي أعطتني حق المواطنة والانتماء بعد فقدي لهويتي التي كنت أنتمي لها ولا أعود إليها…
ما الذي تقوله للطلبة السوريين؟
نصيحتي لأصدقائي السوريين هي ألا يفقدوا الأمل، وألا يلتفتوا للوراء وألا يتأثروا بما يدور من حولهم وأن يتحدوا الصعاب، فلا يأتي الصبح دون ولوج الليل ولا طعم للنجاح دون الصبر.
كما أوصيهم أن يتقربوا من إخوتهم الأتراك، وألا يترددوا في طلب العون منهم فإنهم أهل له.
وأقول لهم إياكم والوهن فإن هناك وطنًا فيه أناس مظلمون ينتظرون فلاحكم.
الأتراك؟
كلمتي لإخوتي الأتراك مهما كانت مليئة بالشكر فإنها لن تكون كافية في إيفائهم حقهم، وإني أسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء وأن يعينني على رد معروفهم تجاهي على الوجه الذي يُرضي الله ثم يُرضيهم، وإني أطلب منهم ألا يكون أحدهم أقل من صديقي مراد في عطائه، فإن إخوتهم السوريين هم بحاجة لهم كحاجة الزرع للماء .
العاملين في المجال التعليمي؟
أنصح كل أصدقائي العاملين في المجال التعليمي أن يستمروا في عطائهم وأن تكون خدمة تركيا هي هدفهم الأعلى.
وليعلموا أن ارتقاء الأمم لا يكون إلا بالعلم. وليكن كل منهم مخلصًا في عمله مبتغيًا فيه رضا الله وخدمة الوطن والمواطنين .
لتركيا؟
أخيرًا لا يسعني إلا أن أشكر تركيا دولة وشعبًا على ما يقدمانه لهذه الدولة وللعالم من تطور وازدهار وريادة. وإني أرى مستقبلًا مشرقًا لهذا البلد المتطور، وأنا مؤمن بأن هذا البلد مقبل على قيادة العالم بأسره مستعينًا بالحكمة والتدبير وقوة الترسانة العلمية المتقدمة.
المصدر: يني شفق