عبير علي حسن |
روايةُ حب…! لم تكن يوماً إحدى اهتماماتي أن أطالع شيئاً كهذا، كنت دائماً أتجه إلى حكايا المغامرات والتشويق، الأساطير والأكاذيب، السحر والشعوذة، وشيء ما في عالم الجريمة كان يشدني أكثر ممَّا تفعل روايات الحب. لست على هذه السجيّة لأنني لا أجيد الحب، أو لأن علاقتي سيئةٌ به، كان سببُ نفوري منها النهايات المأساوية التي يتسابق الكتّاب والروائيُّون لوضعها، وأنا التي اعتدت النهايات السعيدة، اعتدت أن تتزوج سندريلا النبيل شارل، وأن تستفيق الأميرة النائمة على قبلة من قدرها المحتَّم، وأن ينقذ الأمير وسام فلّة “بياض الثلج” ويخلصها من زوجة أبيها الظالمة، أن تسدُل ربانزل شعرها الطويل من نافذة البرج فيتسلقه حبيبها ويفك أسرها. لطالما أحببت الخيال أكثر من الواقع ورفضت قراءة مآسي الحب ولو كانت حوادث حقيقية، ورفضت تخيل الحزن فكيف بي أتقبله واقعاً!
لم أكن أنوي قراءة “الأسود يليق بكِ” دائماً، ولكن أسبابًا كثيرة أيقظت فضولي لمعرفة تفاصيلها، رأيت الفتيات يتوسَّدن صفحاتها، يبكينَ أحلامهنَّ بمقتطفاتها، يثأرنَ لخيباتهنَّ باقتباس كلماتها، ويتوشحنَ السواد ظناً أنّ الأسود يليق بهنَّ ويحاكي عذاباتهنَّ.
أمسكتها وبدأت أقلب الصفحة تلوَ الصفحة، لا شيء في البداية سوى النهاية الغامضة، شيء من التشويق يضفيه سير القصص بهذه الطريقة، المجيء من الخلف ثم العودة إلى الأمام. يبدو أنّ خطباً جللاً قد حال بينهما، وشيئاً عظيماً قد فرق العاشقَين. استغرقت بها أكثر فأكثر ورحت أضيّع ساعات يومي بالإصرار على إتمامها، وفي كل صفحة أشعر بالمفاجأة!
الصفعة الأولى التي تلقيتها كانت “هالة الوافي” بطلة حكايتنا، معلمة تفقد والدها وأخاها في حوادث اغتيال مؤلمة، تتمرد على القتلة بتركها التدريس وتحولها إلى الغناء انتقاماً من ذوي اللحى، ثم تهرب بها أمُّها إلى الشام خوفاً من فقدها هي الأخرى. لا تتخلى هالة عن الغناء تحدياً للقتلة، لكنها تترك مهنة التدريس لأن الخطأ لا يقابل إلا بمثله، التدريس غاية في النبل لا يصلح أن يكون سلاحاً تواجه به المغالين، تحتاج إلى قهرهم أن تتعرى من العادات والتقاليد، أن تظاهر على التحفظ الذي رُبيت فيه، هكذا نفهم التحدي نحن، بالتمرد، التمرد على كل شيء، أنا لا أكره الغناء، ربما استمع به أكثر من هالة وكاتبتها، ولكن أعتقد أني أكره هذه الطريقة في مصادمة القيم وجعلها تنال من بعضها …، ازدردتُّ ريقي ثم أكملت، وإذ بي أصطدم برجل خمسيني اعتقدته ضعيفاً ومريضاً، بالكاد يصعد درجاً دون أن يسعل أحشاءه من فمه، لكنني فُوجئت به يقف منتصب الظهر يحشو غليونه بالتبغ الفاخر، يتأمل الحياة كما لو أنها ملك يديه، وأحلامه تضاهي أحلام الشباب، ذاك الخمسيني المراهق كان أمير قصتنا، وهالة الشابة في مقتبل عمرها، في أواخر العشرينات هي سندريلا الحكاية.
في الواقع يصعب أن أصدق حباً كهذا، أجبر نفسي على متابعتها لأتلقى الصفعة الثانية، الرجل متزوج ولديه ابنتين، لكنه وقع في سطوة النزوة التي تُسميها أحلام “حباً”، هي ذات الشيء الذي حصل مع هالة وأطلقت عليه أحلام بكل جرأة مسمى (العشق) مع أن الناظر من بعيد إلى هالة يرى فيها الشابة التي فقدت الأب والأخ ودخلت خواءً روحياً كانت لتسده بأي شيء تتعثر به قدماها ولو كان حجراً، فكيف وهي ترتطم بتمثال منحوت من الذهب، غطاء زجاجة النبيذ التي يشربها كانت تساوي مرتبها الشهري عندما كانت معلمة! وأظن أن خمسين عاماً من عمره كانت قد تخيلتها عمر والدها مضافاً إلى عمر أخيها وبه كانت تعوض خسارتهما المريرة، هكذا قرأتُ القصة، فكنتُ ازداد كرهاً على كره عندما أراه يعبث بها كالدمى، تارةً يُقبلها ويلثم شفاهها بنهم، وتارةً يشعرها أنها كأي قطعة أرض من ممتلكاته يزورها أنَّى يشاء، ويهجرها كذلك، دون أن يدع لها مجالاً للنطق، إذ ليس من حق الجمادات أن تنطق. يزيد الطين بِلةً عندما تتبجح هالة بكبريائها وكرامتها، وأنا عليّ أن أغض بصري عن تصرفاتها الهوجاء التي تتنافى مع أي كبرياء وكرامة، تُريدني أحلام أن أشاهد هالة تتمادى في الخطأ، تُسلِّم جسدها إلى رجل بالكاد تعرف اسمه وللتو عرفت شكله، لا عنوان له تجده فيه، لا رقم ولا صاحب لتسأله عنه، والأمرّ من ذلك لا وعد بينهما تمسكه عليه، أيكون هذا حُباً؟! على الأقل كان يجدر بها أن تأخذ عليه وعداً بالزواج وإن لم يكن صادقاً، لعلي حينها أجد لها عذراً وأقول غُرِرَ بها، لكن أن ترغمني أحلام أن أقف بصفها وتأخذني بها شفقة، فلا.. لا أعتقد أني سأفعل، مهما حاولت أن تنمق عباراتها لتجعل هالة مظلومة، حتى إن عزفت على أوتار الكبرياء والكرامة التي حاولت مراراً أن تجملها بها، إذا كان باعتقادها أنها انتصرت وحافظت على كرامتها لمّا تركت سريره ومعها عُذريتها! فأنا لا أراها إلا وقد أهدرت كبريائها وخدشت حياءها مذ لامست الشفاه بعضها وتلاقت الأجساد في ذات السرير، لن أصفق لها وأبارك خروجها بعذريتها، لم يعد مهماً.. ما كان بينهما هو شهوة عارمة من رجل شهواني يقرُّ على نفسه بهذا، وفراغ عاطفي منها كانت قد اعترفت به أيضاً..
الصفعة الثالثة جنّنتني، إذ لم تنتهِ هذه الحكاية ببطولة يخوضها الأمير لإنقاذ أميرته، ولا بقبلة النجاة الحقيقية التي يليها ثوب الزفاف الأبيض، كان قد اعتاد فقط أن يقبِّلها في الحَرام كما يُقال، ذات نهار غضِب لسببٍ تافه فأهانها وتركها، ثم رحلت عنه وغادرته كأن شيئاً لم يكن! فقط لن يستطيع رؤيتها ثانيةً، والمفجع في ذلك أنها عدّته انتصاراً! وبقي كل واحد منهما في عالمه بعيداً عن الآخر، يعيشان الكرامة والكبرياء هه! لتأتي أخيراً أحلام وتقول: “يأكل العشق أصحابه”… عزيزتي: “تأكل الشهوات أصحابها، وبالعشق تحيا نفوس تحتضر.” هكذا تنتهي حكاية اليوم.. يا لها من ليلة مظلمة وحكاية مأسوف عليها.
1 تعليق
Wafaa
💙💙