أحمد ماهر
إنّ ممّا لاشكّ فيه أنّ الحياة متطوّرة ومتغيّرة، وتأتي كلّ يوم بأشياء جديدة على جميع الصعد وفي شتّى المجالات، وبالتالي فالإنسان في تطوّر دائم والأزمنة والأمكنة تختلف وتتغير، ولقد خلق الله الإنسان ليقوم بعمارة الأرض، وأوجد له ما يعينه على تنظيم علاقته معه، ومع جميع ما يحيط به من البشر وغيرهم، وذلك من خلال الكتب السماويّة التي جاء بها الأنبياء، والتي كان آخرها القرآن الكريم مضافاً إليه السنّة النبويّة واللذان شكّلا بدورهما النصّ الديني لدى المسلمين.
ولقد قام العلماء والفقهاء بتفسير واستنباط الأحكام من النصّ الديني بشقّيه (القرآن والسنّة) ما يتناسب مع عصرهم وأدواته، الذي هو من الطبيعي أن يكون أقل تطوّراً من ناحية تلك الأدوات من عصرنا، ولكن ثمَّة إشكاليّة وهي ليست وليدة اليوم بل يكاد يكون عمرها قرنين أو أكثر من الزمن ألا وهي: أنّه لم يعُد هناك من يفسّر ويستنبط من النصّ الديني ما يتناسب مع العصر وأدواته، فأخذت الأمور بالجمود، وبدأت تظهر ملامح فجوة أخذت بالاتساع شيئاً فشيئاً بين النصّ الديني وبين الحياة المعاصرة وأدواتها، وبدل أن يتصدّى العلماء والفقهاء إلا القلّة القليلة منهم لهذا الأمر فيفسّروا ويستنبطوا من النصّ الديني ما يتناسب مع روح العصر، ركنوا إلى أقوال المفسّرين والعلماء والفقهاء القدامى، واعتمدوا عليها، وقدّموها للناس بالنقل دون إعمال العقل، فازدادت تلك الفجوة اتساعاً وعمقاً، حتّى باتت تلك التفاسير والأقوال لهؤلاء العلماء والفقهاء مع تقديرنا وتثميننا لجهدهم ونتاجهم مقدّسة أكثر من النصّ الديني نفسه، فبدأنا نسمع قال فلان من هؤلاء أكثر ممّا نسمع قال الله تعالى أو قال رسوله الكريم عليه أفضل الصّلاة والسّلام، وكأنّ أقوالهم وفهمهم للنص أصبح هو المقدّس ولا يجوز مخالفته والخروج عليه، وأُقفل بذلك باب الاجتهاد، وأصبح كلّ من يتصدّى للاجتهاد مُبتدع ضال، ممّا أدّى بردّة فعل قد تكون مبرّرة شيئاً ما من الذين اطّلعوا على ثقافة الغرب ورأوا كيف أنّ هذا الغرب قد تطوّر بعدما ثار على سلطة الكنيسة وكهنتها الذين كانوا يحكمون باسم الدين، ورُفع لواء العلمانيّة، ومن هنا بدأ الصراع المرير بين أهل من قدّسوا النقل دون العقل، وبين من قدّسوا العقل وراحوا يدعون إلى رمي النقل جانباً بكلّ ما فيه، والذي بات في تصوّرهم العائق الذي يحول دون تطوّر المجتمع وتماشيه مع الحياة المعاصرة والحضارة وأدواتها، وبذلك اختلط الأمر على أكثرهم بين ما هو ثابت من النقل ألا وهو النصّ الديني بشقّيه، وبين ما هو متغيّر من التفاسير والأحكام وأقوال العلماء والفقهاء، ونتيجة ذلك راح أصحاب النقل يتشدّدون بدفاعهم أكثر أمام هذه الهجمة من قبل هؤلاء، وبدل أن يكلّفوا أنفسهم ويعملوا بالنصّ الديني عقولهم المتحجّرة ليفسّروا ويستنبطوا منه ما يتناسب مع العصر ويدرؤون عن الدين الحنيف وعن أنفسهم هذا الهجوم، راحوا يصدرون الفتاوى التي تقضي بكفر هؤلاء وخروجهم عن ملّة الإسلام، وبات المجتمع المسلم منقسماً بين فريقين كلّ منهم متمسّك باعتقاده وأفكاره ولديه وجهة نظره وحججه التي تؤيّد ذلك ومقتنعاً بها، ممّا زاد هذا الأمر بتخلّف المجتمع أكثر ممّا هو عليه للأسف، وأدّى ذلك أيضاً إلى إنتاج أنظمة حكم مستبدّة وفاسدة قمعت شعوبها وزادت في تخلّفها وتردّيها وساهمت عن قصد بتعميق هذه الفجوة وترسيخ الخلاف، وراحت تهدّد كلّ طرف بالطرف الآخر وتضربه به، إلى أن وصل بنا الأمر إلى الربيع العربي، وثارت الشعوب على أنظمتها، ولكن سرعان ما تراجع توهّج هذا الربيع وبات يتعرّض إلى النكسات، وذلك للأسف نتيجة هذا الصراع المستعصي الذي أستمرّ إلى ما بعد هذه الثورات، ممّا أدّى إلى الفشل الذريع بإنتاج أنظمة حكم تكون بديلا جيّدا لتلك الأنظمة المستبدّة وصالحة للحياة والاستمراريّة، ونتيجةً لذلك أيضاً فقد عادت في بعض دول الربيع العربي الأنظمة المستبدّة من جديد إلى سدّة الحكم، بأشكال مختلفة ومتنوّعة، وراحت أخرى تخضع لحكم تنظيمات رفعت شعار الإسلام وهي أبعد ما تكون عنه وعن تطبيقاته السمحاء، ولكي نتدارك هذا الأمر بأسرع وقت ممكن علينا أن نقدم على مصالحة تاريخيّة بين هذين التيارين قبل أن يُقضى على هذا الربيع الذي كاد أن يُزهر، ويكون المنطلق الأساسي في هذه المصالحة هو إقدام العلماء والفقهاء على تفسير واستنباط أحكام جديدة من النصّ الديني بشقّيه مع ما يتناسب ويتلاءم مع العصر وأدواته، مقدّرين وغير مقدّسين، ومتشبّثين بما أنتجه سلفهم الصالح، فلكلّ زمان ومكان دولةٌ ورجال.