نُفِيَ الإنسان مؤقَّتاً من الجنَّة التي أرادَه الله تعالى فيها إلى كوكبٍ أزرق يكاد لا يُرَى في هذا الكون الشاسع. هبطَ إليه وهو لا يعرف منه إلَّا القليلَ ممَّا استطاع حفظَه عنْ أبيه آدمَ.
وقفَ مذهولاً يتفرَّج على مناظر الطبيعة يحفظُ عنها مظاهرَها، غيرَ أنَّ ذلك لم يكن ليرويَ ظمأه للمعرفة، فلقد أراد مزيدَها منذ أن بدَأ يتذوَّق.
رغبتُه في الترقِّي تلك جعلته يدرك مع الوقت أنَّ في حوزتِه كنزاً ربَّانيَّاً يزداد كلَّما أُخِذ منه ويثمن ما دام يكثر، ألا وهو العقل.
إدراك الإنسان لعقله جعله يقدِّرُ المعلومات التي هي مادَّته، وذلك شكَّل نقطة تحوُّل في حياته، فلقد بدأ يبحث عن الأسرار حتَّى وإن اشتمل بحثه ذلك على مغامرات.
” فَلْيُسكن هذا الكوكب عن معرفةٍ أو لِتنْقبر فيه الحياة ” هكذا عاشَ على الدوام. تتابعتْ سنون الحياة والإنسان على حالتِه الأولى تلك، يخزِّن المعلومات وينقلُها عبر الأجيال في محاولةٍ للحفاظ عليها ومتابعةٍ لحالة التطوير المبدوءة، حتَّى ظهرت الصحافة ووسائل الإعلام فبدأت مرحلة أعقل من التعامل مع المعلومات.
لقد سهُلَ بوسائل الإعلام تناقل المعلومات وتوجيهها في عقل الإنسان، وكان وجودها ضرورةً ملحَّة في زمنٍ بدأت فيه المعلومات تتضخَّم بشكلٍ غير مسبوقٍ، وبدأت فيه مختلف العلوم تفتح للإنسان أستار أسرارها حتَّى يتمكَّن من معاينتها، وذلك كلُّه عن رحابة صدرٍ غير مسبوقة. ظهرت هذه الأداة وظهرتْ معها حقيقة تتعلَّق بها وهي أنَّ هذه الأداة تشبه في طبيعتها نفسَ الإنسان التي اهتدت النجدَيْن، فهي لديها القابليَّة لأن تكون شيطاناً يتقوَّت على المظالم، أو لتكونَ حرَّةً تنطق بالإنسانيَّة ولها.
غيرَ أنَّ العقول الأرقى التي اشتغلت للسلطة لم تلتفت البتَّة لرومانسيَّة الخير أو لمعانيه الشاعريَّة. وإنَّما رأت مصالِحها السياسيَّة فقط من خلال الإعلام، وهنا بدأ العالم يرى دون تصديقٍ سلطةً جديدةً لا يُعرَف كيفَ تُقهر.
إذْ ذاك بدأ الباطل يفكِّر بأنَّ دورَ المعلومات في رفع وعي الإنسان لن يعودَ له وجود، وأنَّه من الآن فصاعداً يجب أن يكون أشدُّ الناس تشرُّباً للأنباء أخربُهم للعقل. هذه الخواطر المرعبَة لمْ تشكِّل أرقاً لأولئك، فالوسيلة ما كانتْ يوماً بالنسبة إليهم محلَّ خلاف، وإذا كان التلاعب بقدسيَّة المعلومات هو وسيلة ناجحة في بلوغ أهدافهم، فيا أهلاً وسهلاً بإفساد بعض الملايين من عقول البشر.
بدؤوا بالكذب الذي يخدم المصالح دون إرهاق في تتبَّع المصداقيَّة. لجؤوا إلى التدليس الذي لا يحتاج إلى أكثر من تلاعب بالكلمات.
تطلَّعوا إلى خلق نوعيَّة من الأمراض الدماغيَّة يمكن لجينات الإنسان أن تتوارَثها صاغراً عن صاغر؛ فخلقوا شعاراتٍ من الكذب تقذفها إلى الأسماع وكالات الأنباء. تذخر بها مناهج المدارس وعظات المشايخ، بل حتَّى شخيرُ النائم يهتف بها في عزَّة وإباء.
أقنعوا الإنسان أنَّ لبنَ الطائر صناعةٌ وطنيَّة، وأنَّ رجلاً انتحرَ بسبعِ رصاصاتٍ في الرأسِ قد وافتْه أمسُ في المستشفى المنيَّة. أقنعوا الإنسان أنَّ القائدَ المفدَّى قد وهبَ للشعب الحياة، وأنَّ الأرض ما كانت لتخرج ثمارَها لولاه.
والمشكلة التي تفلق المخَّ أنَّ الشعب صدَّق، بل وبدأ يعتبر مع الوقت أنَّ المعرفة التي تناقض أقوال الجهات العليا مسٌّ من الجنون. وكأنَّ برمجة العقل البشريَّ قد تعرَّضت لفيروس فتَّاك في تلك البقعة من المعمورة، والتي يحكمها عنترة.
هذا الوضع الكارثيُّ ليس خيالاً بل هو موجود. صحيح أنَّه من وقتٍ لآخر تختلف صيَغُه وتتبدَّل أساليبه؛ ولكنَّه يتزايد باطِّراد، وتأثيراته على العوام لا تزال فعَّالة.
المثقَّفون لا يستطيعون فعل شيء عندما يتمشَّى سمُّ الإعلام الاستعباديّ في دم الناس، بل سيغدون هم المجانينَ إن بدؤوا بالإفصاح عن الحقيقة، في زمن تحتاج فيه كتب العلوم إلى تعاريف واضحة للأشياء.
المناعة ضدَّه موجودة وليست كما للموت مستحيلة، وهي في متناول الجميع. هيَ تكمن في تعليم أنفسِنا وأولادنا ومنْ نَعولُ أنْ ننظر دوماً إلى عالمنا نظرة مراقب خارجيٍّ. أن ندرس تجارب باقي البلدان والشعوب، نُعاين المظاهر الحضاريَّة التي مرّوا فيها، ندرسُ ذلك دون بلادة ثمَّ نصحو إذْ ننصعق.
أنْ نكسب المناعةَ ذلك يعني ألا نطمس رؤوسنا في الوحل كالنعامة ونلزم المشيَ بجانب الجدران. ذلك يعني أن نأبى حياة العبوديَّة، وأن نكون دوماً أحراراً كما وُلِدنا. ذلك هو طريقنا الذي بدأناه، ولا بدَّ لمشوار الكفاح من نهايةٍ سعيدة إن صَدَقْنا، واللهَ نسألُ أن ذلك يكون.
1 تعليق
علاء
صحيح اخي الكريم و اقول امين لاخر جمله في هذا المقال الرائع