فراس مصري |
من 51% إلى 99.99% تتأرجح الديمقراطيات في دول العالم عبر انتخابات يُطلق على بعضها حرة ونزيهة وعلى أخرى مسرحية هزلية.
لن أخوض في هذا المقال بمفهوم الديمقراطية من حيث سيادة الشعب، بل سأتحدث عنها بوصفها آلية العصر الحديث لوصول رجال الدولة من (رئيس، وبرلماني، وعضو مجلس محلي) إلى مفاصل الحكم، ووصول (أعضاء النقابات، والاتحادات، والطلبة) إلى تمثيل شرائحهم في مواقع صنع قرار تلك الشرائح، وسأعترف بأنني لا أعرف في زماننا هذا وسيلة أخرى لتقلد مقاعد شرعية ترضي الشعوب من خلال أشخاص يمثلونهم.
لكن السؤال المهم: هل فعلاً تمكنت الآليات الديمقراطية من إقرار دساتير تُعبِّر عن الشعوب؟ وهل تمكنت هذه الآليات من إيصال من يمثلون الناس ومصالحهم بشكل حقيقي وشفاف إلى مراكز اتخاذ القرار؟ وهل نجحت هذه الآلية ببلوغ الأصلح والأكفأ أم الأقوى إلى مراكز اتخاذ القرار؟
للجواب عن هذا السؤال يجب أن نفرق بين نموذجين في العالم وهما نموذج العالم الغربي وبعض دول المنطقة، ونموذج منطقتنا العربية وما يشابهها من دول نامية.
فأما النموذج الأول أمريكا وأوربا الغربية عمومًا من الغرب وتركيا وتونس حديثًا من دول المنطقة فهو نموذج (51%)، إذ إننا ندّعي جميعنا أن الانتخابات فيها تجري بجو من الشفافية والديمقراطية، وأنا أدعي أن جزءًا مهمًا من ادعاءاتنا صحيح، لكن ليس بمعنى وصول الأكفأ والأصلح، بل هو يوصل الأقوى وربما الأقذر إلى مراكز صنع واتخاذ القرار، والسبب أن جزءًا مبطنًا يحدث بشكل مقصود أو غير مقصود يشوه العملية الديمقراطية ويحرفها عن مسارها، نذكر مثال ذلك (رجال المال، واللوبيات الاقتصادية، واللوبيات الإعلامية، واللوبيات الإيديولوجية) من يمين ويسار، حيث تؤثر هذه القوى بمجرى العملية الانتخابية الديموقراطية، فنكون أمام مدخلات تسمى شفافية وحوكمة ونزاهة، ثم أمام مخرجات تضع الرجل غير المناسب الذي لا يُرضي الشعوب في المنصب المأمول، وفي هذه الحالة يشعر عامة المواطنين أن هذا المُخرَج هو نتيجة المدخلات الشفافة والأصوات الحقيقية ثم يستغربون من الأداء فيشكون بخياراتهم ويبدؤون بالتحضير لمعركة جديدة، وهكذا…
وأما النموذج الثاني في دولنا العربية والكثير من الدول الافريقية وبعض الدول الآسيوية فهو نموذج (99.99%)، والكارثة هنا أدهى وأمر؛ لأن الذي سيصل إلى الحكم ليس الأكفأ ولا الأصلح ولا حتى الأقوى، بل إنه يصل بقوة الاستعمار الذي علمونا أن اسمه هو الاستعمار الحديث في المدارس، وبالتالي يكون هذا المُنتخَب عبارة عن عنصر وظيفي لنفوذ الدول الكبرى، وهنا لا معنى للآليات الديمقراطية في صياغة دستور أو انتخاب رئيس أو برلمان أو غيرهم.
ولكي نفهم أكثر علينا أن نراجع مباركة كافة الدول المُدَّعية للديمقراطية انقلاب مصر السيسي، والانقلاب على انتخابات الجزائر 1990، ومحاولة التدخل بانتخابات تونس ثم عقابها بإثارة الفتن التي أماتت الاقتصاد؛ لأنها مرَّت من العملية الديمقراطية الانتخابية بسلام، وأن نراجع المواقف الباهتة إزاء انتخابات الأسد 2014 التي جرت على إيقاع براميل الغدر والموت العمياء.
وإذ نشير في كتاباتنا إلى هذه المتناقضات والحقائق فإننا لا نسعى من خلال ذلك إلى محاربة الآلية الديمقراطية الانتخابية، بل لمحاولة عدم الوقوع في شباك الغدر والاستبداد مرة أخرى، ولنعرف جيدًا أن الوصول إلى ديمقراطية وطنية تنتج الأصلح والأكفأ والأقوى بآن واحد يحتاج عملاً كبيرًا وإدراكًا وفيرًا بدءًا من النصوص الدستورية والقانونية ومرورًا بالإجراءات النزيهة والشفافة لعلنا نحقق على الأقل ما حققه النموذج الأول، إذ ليس للمثالية والكمال مكان في واقعنا، لكن لعله يكون في واقع أبنائنا وأحفادنا.
حياكم الله…