لا شك أن تركيا في عهود أردوغان المتلاحقة منذ كان رئيسًا للوزراء حتى وصوله للرئاسة، قد قطعت أشواطًا كبيرة في طريق نهضتها، وظهورها بين الدول المتقدمة مع سعيها الحثيث لتكون جزءًا من القرار العالمي بصوفها دولة كبرى وعالمية، وليست كدولة إقليمية متوسطة القوة فحسب.
ولكن كيف ينظر بعض العرب لهذه التجربة التي استطاعت صناعة النهضة في تركيا؟! نتساءل هنا: هل يعي العرب والمسلمون منهم تحديدً ظروف التجربة وحقيقتها، أم أنّ التعطش لوجود قوة إسلامية، يجعلهم مأخوذين بالهالة الإعلامية عن تركيا بعيدًا عن حجمها الحقيقي؟ هل هم مؤمنون حقًا بالتجربة، أم أنها فقط تملأ بداخلهم فراغًا عاطفيًا ونفسيًا ووجدانيًا كبيرًا، يصل إلى درجة أنهّا تمكنهم من استعادة تعريف الذات القوية والهوية الحضارية المفقودة من خلال عظمة الدولة وكاريزما السلطان؟!
من يتابع ردود فعل الشارع العربي (الإسلامي) على كل تحركات تركيا ونجاحاتها أو حتى إنجازاتها البسيطة، يستطيع أن يلحظ بسهولة حجم الأثر النفسي الكبير الذي تفعله التجربة في الوجدان المشترك، خاصة عندما يشاهد الإعجاب غير المنطقي من الجماهير العربية، وما يقابله من حرب أيضًا غير منطقية من شارع ثقافي عربي متعولم ومتحالف مع الحكومات يصرُّ على تسخيف التجربة التي من الواضح أنها أوجعته جدًا واستطاعت تعريته على الصعيد الاقتصادي والسياسي والعسكري، وحتى على الصعيد الإنساني.
هذا المديح والذم يبيّن بوضوح أن التجربة التركية بعيدة عن محاولة الفهم الحقيقي من قبل الجماهير العربية إلى حدّ كبير، وهي تجربة يتم التعاطي معها نفسيًا وعاطفيًا بشكل مبالغ فيه لتملأ البعض بشعور الفخر والاعتزاز بالذات الممتدة من دمشق وبغداد إلى الأناضول والقسطنطينية كشخصية حضارية واحدة، وتملأ آخرين بالحقد والضغينة ضد هذه الشخصية الواحدة التي ألغت في طريقها الكثير من الشخصيات المحلية الضيقة وامتداداتها نحو الغرب الأوروبي في محاولة لاجترار بقايا الحضارة الغربية على أنها الشكل الوحيد للتطور والتمدن.
ولا بدّ أن نشير أيضًا إلى النظرة لهذه التجربة كمخلص، فالشعوب اليوم تنظر إلى دور تركيا في المنطقة على أنه دور محوري في تخليصها من الاستبداد ومساعدتها على صناعة النهضة، لذلك هي تتجاوز الكثير من الأخطاء في سبيل بقاء التجربة، وتجد لها المبررات الكافية من أجل عدم النيل منها، الأمر الذي يستغله تيار آخر للضرب في التجربة وتحجيمها، ووصمها بالاستبداد والاستغلال، الأمر الذي يجعلها شبيهة بأشكال الحكم في الشرق عمومًا ولا تخرج عن القاعدة.
في النهاية استطاعت تركيا أن تكون أيقونة لحلم الكثيرين في المنطقة، وأن تكون كابوسًا لآخرين يحاربونها حتى في أحلامهم، وهي ضمن هذا التوصيف تجربة مؤثرة جدًا بغض النظر عن تفاصيل التقييم الحقيقي الذي تحظى به.
المدير العام | أحمد وديع العبسي
2 تعليقات
محمود عيران
كلام جميل ومنطقي وهذا ما نطمح اليه فعلا
Hadi
إن من أسباب التأثير الأولي في جماهير وعقول العرب كانت بدايتها بالهجمة الدرامية التي ظهرت جلياً على الشاشات…
ثم انتقلوا بعدها للتأثير أكثر إلى مسلسلات التاريخ التي جسدوا فيها تجسيداً صريحاً ٱداب وقيم الإسلام في شخصيات مسلسلات ( آرطغرل، وعثمان وغيرهااا….
الفضل الأول للتأثير في الجماهير كان للشاشة والصورة والحركة، واستطاعوا الوصول من خلالها إلى السياسة والإدارة بعدما دخلوا إلى العقول والقلوب.