نارمين خليفة |
إن التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم في العقد الأخير، بالإضافة إلى الانفجار التكنولوجي والتوحش الحضاري كما أحب أن أسميه ترك الإنسان العادي فريسة مخاوفه وصراعاته، فكيف يمكنه أن يجاري هذا التطور ويواكب التقدم في ظل مواردَ محدودة وأعباء متزايدة خاصة في بلاد العالم الثالث التي ما تزال حتى اليوم ساحة معارك لأطماع الدول الكبرى، ترزح في الجهل والفقر والكفاح المضني للحاق ركب الحضارة البعيد.
كل هذه الإرهاصات ومايرافقها من أحداث تترك الفرد صريع القلق والتوتر والضغوط النفسية، حتى أن عصرنا الحالي قد وُسم بعصر القلق، حيث تتزايد نسبة القلق والاضطراب في الدول النامية بشكل ملحوظ مقارنة بالدول المتقدمة ويرجع ذلك لعدة عوامل ذكرتها سابقاً يُضاف إليها السلوك القمعي الذي يحد من انطلاق الفرد وقدرته على التكيف مع تغيرات العالم.
ويمكن الولوج بعد هذه المقدمة إلى صلب الموضوع الذي سوف أتحدث عنه في عدة مقالات ستكون هذه الأولى كمدخل للتعرف على مفهوم الصحة النفسية والعوامل المؤثرة فيه، ومن ثم الانتقال لتوضيح نقيض الصحة وهو الاضطراب النفسي والعوامل المسببة له، وبعض النقاط التي يمكن أن تساعد على نشر الوعي في مجتمعنا الذي يعاني من تبعات حرب استمرت على مدى تسعة سنوات تركت أخاديداً عميقة في التكوين النفسي للإنسان السوري.
فالصحة النفسية هي حالة العافية والسلام والبصيرة التي يتمتع بها الفرد، هي معرفته الجيدة بذاته وتقبله لها، وإدراكه لمهاراته وقدراته بالإضافة إلى تقبل الأخرين وبناء علاقات طيبة معهم والقدرة على المحافظة على هذه العلاقات، كما أنها حالة الإنتاجية والفاعلية في المجتمع.
وتظهر الصحة النفسية من خلال مجموعة معايير منها الكفاية العقلية والتحكم بالأفكار والتكامل بينها وكذلك التكامل بين العواطف والتحكم بالصراع والإحباط، كما تتمثل بالعواطف والمشاعر السليمة والمواقف السليمة والمفهوم السليم حول الذات والعلاقة المناسبة مع الواقع والاتزان العاطفي والتكيف الاجتماعي وهو مستوى توافق الفرد مع شروط حياة الجماعة وتفاعله معها، بالإضافة إلى مواجهة أشكال الضغط والشدة.
ولايمكن الوصول إلى هذه الايجابية في مواجهة تحديات الحياة والضغوط المستجدة إلا من خلال التكيف، والتكيف هو قدرة الفرد على تكوين علاقات مرضية مع نفسه (تقبلها) ومع بيئته (يوائم بين مطالبه وبين مطالب وضغوط المجتمع)، والتكيف هو العمود الفقري للصحة النفسية يتحقق للإنسان من خلال إشباع مجموعة من الحاجات الأساسية، وهي تتمثل في شكل هرم في قاعدته الحاجات الفيزولوجية الأولية ( طعام ومأوى) وبعد تحققها ينتقل الفرد لإشباع الحاجات النفسية والاجتماعية وهي الحاجة إلى الحب والدعم الاسري والحاجة للأمان والانتماء والحاجة للتقدير الاجتماعي والحاجة للنجاح وتحقيق الذات، وفي حال كانت البيئة المحيطة بالفرد وخاصة في فترة طفولته مساعدة له لإشباع حاجاته كلما امتلك المرونة والقدرة على التكيف مع ما يستجد من تطورات وأحداث، وكلما حرمت البيئة الطفل من تحقيق هذه المطالب تعرض نظامه النفسي للخلل وعدم التوازن.
وإذا ما انتقلنا قليلاً إلى السياق السوري الذي نعيش فيه منذ تسعة أعوام ومايعانيه الإنسان السوري من ويلات الحرب والفقد والتهجير والفقر مما يجعل معظم الأفراد غير قادرين على إشباع المتطلبات الأساسية التي يحتاجها النمو النفسي والجسدي السليم، وهذا يتسبب بانقلاب المجتمع إلى نوع من السلوك البدائي الذي يسعى للمحافظة على الحياة بغض النظر عن القيم والمنظومة الاجتماعية وما يناسبها، فتنتشر السلوكيات الشاذة المضادة للمجتمع وللقيم الأخلاقية، ويبدأ المجتمع بالنكوص والتراجع بدلاً من التطور.