محمد الصالح |
ثورةُ الفكرِ أبلُغ من ثورةِ السلاح، لكنها أبلغ عندما يكونُ من تثورُ عليهِ يملكُ فكراً أيضاً، إذ يكون التحاور بالفكر، فينتصرُ الأقوى حجةً والأبلغُ دليلاً.
في حالتنا السورية أي فكرٍ سيثور وقد رضعنا القبول والخنوع قبل حليب أمهاتنا أمام الفكر الآخر؟! نعم يا ساداتي وإليكم سيرتي الذاتية كمثال توضيحي.
ولدتُ في مشفى مسمى باسم العائلة الحاكمة، وفي غرفة الحاضنة رأيتُ صورة القائدِ على الحائط قبل أن أرى وجه أمي، ومن هنا تبدأ الحكاية.
ثم في سن السادسة رُميتُ في معسكرٍ لطلائع الحزبِ الحاكم (المدرسة الابتدائية)
أمضيت ست سنوات أقرأ عن تاريخ العائلات الحاكمة وإنجازات الحزب القائد حتى ظننت أننا نحن من حررنا الكوكبَ من عالم الجن ثم وطّنّا الإنس على الأرض.
في الصفِّ السابع يُطلَبُ منا صورتين ورسم اشتراك، فبذلك نكونُ قد حصلنا على عضوية في منظمةِ شبيبة الحزب الحاكم قبل أن نحصل على بطاقة الهوية.
كانت أسماءُ الصفوف موزعةً على أسماء الأبطال القوميين، في الواقع كانت أسماء القائد وأبنائِه الذين لم أعرف حتى الساعة ماذا قدموا للوطن والمجتمع.
تمرُّ ثلاث سنواتٍ نختتم كل سنةٍ منها بصورة القائد على الجلاء المدرسي.
نسيتُ أن أذكر أننا خلال تسع سنوات من التعليم الأساسي تعلمنا كل أنواع التصفيق وكلِّ الصيحات والهتافات للقائد والحزب الحاكم بالطبع.
أما في الصف العاشر فيطلب صورتين شخصيتين ورسمُ اشتراكٍ مجدداً يكون أغلى من رسم الاشتراك في الصف السابع، نعم ففي هذه المرّة الجائزة أكبر، تهانينا لقد أصبحتَ عضواً عاملاً في خدمةِ الحزب والقائد.
لا أعرف ماذا يعملون حتى يسَمونا أعضاء عاملين، ولكن أذكرُ بأنّ قائدنا لطالما كان يقول: إن العمل شيءٌ جيد”
وبعد ثلاثِ سنواتٍ من الدراسة الثانوية نُوزَّع على أفرعٍ جديدة من أفرع الحزب، عذراً أقصد يتم توزيعنا على الجامعاتِ التي بناها لنا الحزب الحاكم والقائد، المسماة أيضاً بأسماءِ مناسباته وانتصاراته، لا أعرف انتصاراتٍ على من، لكن لا يهم أن أعرف نحنُ نصفق فحسب.
ثمّ تمرُّ أربع سنوات حافلة بالمناسباتِ الوطنية والمسيراتِ والهتافاتِ وبعض المحاضرات والامتحانات، في النهاية يكلَّلُ نجاحنا بشهادة تعتليها صورةُ الأب القائد على الزاوية اليمنى، والقائد الابن على الزاويةِ اليسرى لتبقى تلازمنا مدى الحياة كيلا ننسى فضلَ الأسرةِ الحاكمةِ كلما نظرنا إلى الجدار الذي سنعلقُ عليه شهادةَ التخرج.
في الحقيقة أحمدُ اللهَ على عدمِ امتلاكنا لانتخابات، فبالتالي لا يتبدل الحاكم كلَّ أربعِ سنوات كما في الدول المُتخلِّفةِ التي تُدعى بدول الغرب الأوربية، وإلا كيف ستتَّسِعُ الشهادة لصورِ كل الحكّامِ الذين مروا على البلاد، حقاً من أكبر النعم أننا لم نعرف لبلدنا سوى حاكمين منذ الاستقلال.
وصلنا إلى مرحلةِ ما بعد التخرج، حيث ندخلُ فحص التوظيفِ الذي يكون عبارةً عن اختبارِ مدى وطنيةِ الخرّيج وكمية أقوال القائد التي يحفظها، أما المؤهلات والخبرات فهي تأتي في المرتبةِ الثالثة بعد مهارةِ تبييضِ طناجر القائدِ والواسطة،
ويتم الفرز على مؤسسات القائد والحزب كلٌّ حسب واسطتهِ، عفواً أقصد حسب مؤهلاته.
ثمّ يبدأُ الإنسان يحسُّ بقيمته وإنتاجيته عندما يأخذ مرتّبه الأول، يمسُك النقود يُقبل صورة القائد التي تزينها، نسيت أن أذكُرَ بأنه لم يبقَ سوى ورق المرحاض لم نزينه بصور القائد وشعار حزبه، ولولا الحياء من مقامه العلِيِّ لفعلوها.
ثم بعدَ كل هذه الحياة والمسيرة الغاصّةِ بالقائد وأقواله وصوره وإنجازاته، يُطلب منا أن نقوم بثورة فكرية، أي فكرٍ هذا الذي سيثور بحق الرب، عفواً أقصد بحقّ القائدِ وجلالةِ حزبه، ربّهم، أي فكرٍ هذا الذي سيثور؟!