تعدّد الوسائل وتختلف الطرق، والغاية المشتركة هي الوصول إلى نظامٍ أخلاقي تربوي وشمولي يحقق توازناً بين الحقّ الشخصيّ لكل فرد، والواجب المتعيّن عليه أداؤه.
الجميع يسعى إلى تحقيق تربيةٍ أسريّة ناجحة أو مقبولة إلى حدٍ ما في إطار مجتمعه لكنَّ القليل منهم يتكلل سعيه بالنجاح.
تتباين مفاهيم التربية من مجتمع لآخر فالتربية في المجتمعات الغربية تعني تهيئة الفرد لمنحه الحرية المطلقة بلا قيود عند بلوغه سناً معينة، والحال هي العكس تماماً في المجتمعات النامية المتأخرة حيث لا حقوق ولا حريات بل تربية قبلية، عشائرية، تعصبية.
أما التربية في المجتمعات الإسلامية من وجهة نظري تمثل المنهج الوسط المعتدل حيث لا إفراط ولا تفريط، فهي أكثر استقراراً وانضباطاً من غيرها مما يجعلها تتصدر مرتبة عالية على الصعيد التربوي طبقاً للنتائج التي حققتها في تخريج الأبطال عبر التاريخ أمثال أسامة بن زيد قائد جيش المسلمين ابن الثمانية عشر ربيعاً، وغيره من الأبطال اليافعين كالزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت الذي كان كاتباً للوحي في الثالثة عشر من عمره.
تتسم هذه التربية بالبساطة وعدم التعقيد وتبدأ بالطفل من أولى أيام حياته عن طريق المحاكاة العاطفية اعتماداً على ملكة الإدراك السمعي لديه، وفي هذه المرحلة تحديداً على الأبوين ضبط تصرفاتهما والانتباه الشديد لطريقة الحوار بينهما فالطفل سريع التأثر بالتيارات السمعية بكل ما تحمله من شحناتٍ موجبة وسالبة والتي تشكل اللبِنة الأساسية للتربية عنده، إذاً فالخطوة الأولى هي تربية النفس أمام الغير وصولاً إلى الاقتداء الحسن لا التقليد الجبري، ثم تلي هذه المرحلة مرحلة غرس فُضلى القيم وترسيخ المبادئ بشكل عملي عن طريق التوجيه الصحيح والتبيان الصادق لماهية كل فعل وما يترتب عليه من نتائج، ولا بأس إن تخلل هذه المرحلة شيء من الترهيب من ارتكاب السوء، والتشديد على عاقبة الفعل السيء قبل ارتكابه.
أما في حال الوقوع به فتبدأ مرحلة التصويب والتأنيب والتي تعد الخطوة الأصعب على نفوس الأطفال، هنا ينبغي على الآباء عدم التراخي والتهاون في معالجة الموقف مع إشعار الطفل بحجم الخطأ الذي ارتكبه بدون مبالغة، وذلك تحقيقاً للهدف المرجو وهو تعويد الطفل على تحمّل المسؤولية التامة عن تصرفاته، ثم الدفع به للخوض في غِمار الحياة مع منحه الثقة بأنه ليس وحيداً لكن عليه الاعتماد على نفسه.
وﻷنّ السقوط لا يعني الفشل، وارتكاب الخطأ لا يعني التوقف عن ممارسة اﻷفعال، بل الاستفادة منها وتجنبها في المرات القادمة، يتوجب على المربي تقديم الدعم النفسي بكافة أشكاله للطفل، ومساعدته في تكوين خبرةٍ عامة في الحياة بأساليبَ عدة، كإشراكه في المحاورات والمناقشات العائلية وسؤاله بشكلٍ متكرر عن رأيه في أي مشكلةٍ كانت، حتى وإن لم تكن تعنيه، بل وإن كانت تتجاوز عمره وتفوق حدود استيعابه، كسؤاله عن بيتٍ ما هل يصلح لهم سكناً ولم؟! وعلى هذا النحو يقوم المربي برفع معنويات الطفل وإعداده وتهيئته ليكون صاحب مبدأ وقرارٍ صائب.
أما عن الضرب والتعنيف فيما يخص التربية فلا ضير فيه بضوابطه وشروطه ومكانه المناسب، هذا إن كان هادفاً للحث والتحفيز على عملٍ جيد أو الردع والتنفير من آخر سيء ما لم يتعدى حدود الأذى ويلحق الضرر بالطفل جسدياً أو نفسياً، فقد حقق الضرب في بعض الأحيان نتيجة مبهرة لا تقارن بحال الطفل فيما لو لم يضرب عليها آنذاك، وكثير من الطلبة الجامعيين الناجحين في حياتهم لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوه لولا ضربهم في صغرهم وإجبارهم على تأدية فروض المدرسة الابتدائية، إذاً التربية السليمة تحتاج الحزم والشدة وأخذ المسائل على محمل الجد لأنها قائمة في أصلها على المبدأ والعادة، فإنَّ ما يعتاده الفرد في صغره سيبقى عليه طيلة حياته، ومن شبَّ على شيء شاب عليه.
وجديرٌ بنا أن نستحضر ما أمر به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الآباء من ضرب اﻷبناء في سنٍ محددة على تركهم الصلاة بغية إلزامهم القيام بها جسدياً في مبدأ الأمر لحين يرافق هذا الإلزام التزاماً روحياً أيضاً،لكنّ ذلك لا يعني أن نقوم ببرمجة الأطفال وصنع ربوتات آلية منهم، وتجريدها من الطبائع البشرية والمشاعر الإنسانية بحيث تكون مهمتها تنفيذ الأوامر وتجنّب الأخطاء وحسب، لا فالهدف الحقيقي هو صيانة أخلاق الطفل من الانحلال والحفاظ عليها وتعزيزها وتقويتها حتى تكبر معه ويستمر بها، ولا يقوى شيء على نزعها منه، أو تخريبها مهما كان الاحتكاك بالسيئين بليغاً، بحيث تكون تربيته فولاذية لا تطاوع الظروف مهما قست ولا تتأثر بالفساد الاجتماعي من حولها مهما طغى. لتربية حقيقية لا تشيخ علينا بمصداقية القول والعمل بكل ما يُلِم بالطفل وكأن تربيته محصورة بمرحلة الطفولة فقط، فإن فاتت فحقاً ماتت.
والأهم من ذلك هو شرح معنى الحياة لهم وأنّ الغاية من الوجود ليست السعي للرفاه والعيش الكريم بقدر ماهي التمسك بالغايات السامية والقيم النبيلة كاتخاذ الصدق منهجاً والالتزام بالعهود والمواثيق، والابتعاد عن الكذب والخداع، ونبذ الخيانة كيفما كانت وأينما كانت، وأنّ الرسالة التي يحملها كل فرد منّا في حياته عليه أداؤها بأفضل ما يمكنه، مستعيناً بخيرة الصحبة، مبتعداً عن ذوي الأخلاق اللزجة المائعة، علماً أنّ تربيته الصحيحة ستفرض عليه أخذهم بعين الاعتبار ومحاولة إصلاحهم وتوجيههم نحو الصواب من قبيل الواجب الذي سيقع على عاتقه، لأنّ غاية الأخلاق هي النصيحة، وذروة النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هنا يمكننا القول إنّ التربية الإسلامية وفقاً لما سبق تعد نموذجاً مثالياً، وإنّ نتاجها سيكون جيلاً عظيماً من القادة، منفتح وغير منغلق على نفسه، يعرف كيف يصونها، ويؤدي دوره في الحياة ويعرف كيفية التعامل مع المنحلّين فكرياً وخُلُقياً، مدركاً بذلك خطورة هذا الانفتاح، وواجبه نحوهم في المساهمة في التقويم والإرشاد، والتغيير والإصلاح لا مجرد الانفتاح وجيل كهذا يستحق منّا الإخلاص في التربية والاستعداد للبذل والتضحية.