جاد الحق |
كم مرة حصلت معك أن تواصلت مع أحدهم لأمر مستعجل ثم يعدك بمعالجته ويمر الوقت، ويفوتك مقصودك دون أن يفي لك من وعدك بما وعدك، أو حتى أن يعتذر!
أن اتفقت مع أحدهم على أن يزورك في ساعة محددة، فتعد العدة وتجهز ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من إكرام للضيف، ثم تمر الساعة تلو الساعة دون أن يأتيك الضيف الموعود ودون تقديم اعتذار!
قبل أن تخبرني بعدد المرات التي حصلت معك كتلك المواقف، هل قمت بذلك تجاه أحد؟ كم مرة التزمت مع شخص ثم تملصت هاربًا دون اعتذار على الأقل؟
إن عبارات مثل “التزام تجاه شخص” أو “وعدت ولم تفِ بوعدك” عبارات رسمية جدية! بينما موضوعنا أبسط من ذلك وأسهل، هو فقط “التسبيح!” الذي أضحى اسم التدليع لعادة سيئة هي الإخلاف بالوعد، وعدم احترامه، والغاية منه تبسيط هذه الممارسات السيئة، وجعلها محببة مرتبطة بالمزاح والنكات، حتى أصبح التسبيح هو القاعدة المقبولة اجتماعياً والمعمول بها، وما سواها هو الغريب والمستهجن وغير المقبول.
كل من أعرفه من أبناء مجتمعي الذين هاجروا إلى دول ومجتمعات غربية أبدوا انبهارهم بمدى التزام تلك المجتمعات شعبياً ومؤسسياً، ومحافظتهم على مصداقية عالية بما يقولونه، ومباشرة تُستدعى صور مجتمعنا الفوضوي للمقارنة مع مجتمع الغير المنضبط، مع تناسي عاقد المقارنة أنه كان وبملء إرادته وقواه ركنًا أساسياً من ذاك المجتمع الفوضوي غير المنضبط!!
ولو سألناه: ما الذي كان يمنعك أنت من أن تحترم عهودك وكلامك، وتتمايز عن غيرك؟! لأجابنا بسيل طويل عريض من المبررات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، مختصرها يعيدنا إلى نقطة البدء أن التسبيح أصبح ثقافة شعبية، وهو جزء من هذا الشعب المتثقف بها.
لن نخوض في أدلة الدين عن حرمة الإخلاف بالوعد، وكيف ذم الله الأقوام التي نكثت بعهودها مع الله، ولا بوجوب إنجاز الوعود، والإيفاء بالعهود، خاصة أنها شيمة كريمة تحلى بها العرب في جاهليتهم، ليأتي الإسلام مشجعًا عليها أكثر، لكن للاختصار سنعتبر أن أهم سبب لانتشار عادة التسبيح هي ضعف الوازع الديني، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من صفات المنافق إذا وعد أخلف.
ثم يأتينا أهم سبب في تكريس عادة التسبيح ألا وهو دور الحكومات المفسدة في ترسيخ القيم السلبية التي ابتليت بها مجتمعاتنا، إذ إنها تزرع القيم وتنشر الثقافة، فموضوعات الوعود الكاذبة بالإصلاح، والمشاريع التنموية التي ستبدأ قريبًا، تطبيقات عملية موسعة لإستراتيجية التسبيح، لكنه تسبيح فاخر وبالجملة من الحكومات للشعوب.
ومن أسباب التسبيح (على المستوى الفردي) ضعف الشخصية، حيث إنه في مضمونه هروب من مواجهة الطرف الآخر، فلذلك يُفضل ضعيف الشخصية الفرار على المجابهة، ولو تعلّم فن قول كلمة “لا” لأراح مَن أمامه من نيران الانتظار والخذلان، وارتاح من جحيم الهروب والمماطلة.
ثم يأتينا من الأسباب سوء التنظيم، وفوضى المهام، فعلينا ألا نحمل جداولنا فوق استطاعتها إذا أردنا أن نحقق إنجازات.
ويبقى التسبيح عصياً على القضاء عليه بمقال هنا وتغريدة هناك، لكننا مأمورون بالعمل فيما يسعنا، وحبذا لو يعلم إخواني وأحبابي ممَّن وعدوني فأخلفوا، أنهم أساؤوا بإخلافهم بوعدهم لأنفسهم قبل أن يسيؤوا إلي، وبددوا رصيدهم من العمل الصالح عند الله، قبل أن يبددوا عندي رصيدهم العاطفي الذي أختزنه لهم.
ويقول لهم الشاعر بشار بن برد معاتباً:
أَظَلَّتْ علينا منك يوماً سحابَةٌ أضاءت لنا برقاً وأبطا رشاشُها
فلا غَيْمُهَا يُجْلَى فَيَيْأس طَامِعٌ ولا غيثها يأتي فيُروَى عَطَاشُها