لا تجري الرياح دائمًا كما تشتهي السفن على رأي المتنبي، خاصة أن السفن صارت قديمة ومتهالكة وتخوض غمار بحار كثيرة لا تكاد تخرج منها.
تواجهنا مواقف كثيرة في الحياة نقول فيها: “لا”، لكننا نتقدم تجاهها بضع خطوات على سبيل الاحتياط، وأحياناً تكون تلك الـ “لا” مواربة، فهي لا تريد الرفض بقدر ما تريد تثبيت المواقف التي نعتقدها مهمة في حياتنا، رغم أننا نرى (مصلحةً ما) في تحويلها إلى “نعم” لكننا لا نستطيع التخلي عمّا نعتقده بسهولة، لذلك نبدأ خطواتنا بـ “لا” ثم نسير على سبيل الاضطرار إرضاءً لضمائرنا المتعبة، واتقاءً للفشل لعدم ثقتنا بخوض المعترك الجديد، فنشتري بتلك “اللا” صك تبرير جيد لإخلاء مسؤوليتنا من الفشل تحت عبارة: “قلت لكم لا” ولكن لم يستمع لي أحد، أيّها الفاشلون المعتادون على هزِّ رؤوسكم بالموافقة!!
وأحيانًا أخرى تكون هذه الـ “لا” حقيقية، لكن المضي بها قد يؤثر سلبًا على إحدى مصالحنا بشكل غير مباشر، فنتقدم تجاهها قليلاً، ونتجاهل رفضنا لتجنب أضرار أخرى، أو لنحافظ على مكاسب أو علاقات …
للفظ “لا” أيضًا بُعدٌ تراجيدي ثوري ملحمي على طريقة (سبارتكوس) وشيطان “أمل دنقل”، يمجد الرفض والاعتراض والظهور (عكس القطيع!!) الذي يقول: “نعم” دون تفكير!، لذلك تبدو أكثر جاذبية وأناقة وأسهل استخدامًا تجاه أي موقف جديد نتعرض له في حياتنا. وبشكل عام يُعدُّ الرفض أسهل المواقف، فغالبًا لا يترتب عليه أي أعباء، ويحمل نوعًا من الاستقرار المُحبَّب، والركون المريح.
وربّما تحمل “نعم” أيضًا بعض المعاني المشابهة في سياقها، فقد تكون مواربة لإرضاء أحدهم، أو تهربًا من المسؤولية بإلقائها على عاتق الجماعة أو القيادة، أو لمصلحة أخرى قد لا تتعلق بالهدف منها، بل بشيء آخر بعيد عنه …
في الحقيقة الأشياء التي تحتمل أحد هذين الخيارين في الحياة قليلةٌ جدًا كالأبيض والأسود، إلا أن الرمادي هو السائد في العموم، وسفن المتنبي هي الأكثر انتشارًا في البحار، والتجديف هو ما يوصلها لوجهتها عادةً وليس الرياح التي تتلاعب بها، لكننا قد نجيد لعبة الرياح، فنستطيع استغلالها حيث حملتنا، ثم نعيد رسم خريطتنا للعبور بحسب حركتها كي نصل أهدافنا بشكل أسرع.
في النهاية علينا أن نملك الشجاعة للتقدم تجاه ما نرفضه مالم يمسّ بمبادئنا العليا، ونتحرى في كل موقف حجم المصالح البعيدة أو القريبة، أو حتى ما يمكننا تجنبه من مشكلات، إذا لم تكن هناك مصالح ظاهرة على مختلف الأصعدة.
وآخر ما علينا فعله هو التخلي عن تلك الأدوات الحاسمة في الإجابة عن خياراتنا غالبًا، فليست “لا” رغم سهولتها الشديدة خيارًا موفقًا، وليست “نعم” خيارًا صائبًا، الخيار الأفضل هو ما يمثل ذلك الرمادي الذي يملأ معظم تفاصيل الحياة حولنا …
المجد لـــ “ربما”
المدير العام | أحمد وديع العبسي