طلال شوار
تعود بنا قضية مناطق خفض التوتر التي أخذت تَطرح نفسها بقوة على الساحة السورية في الفترة الأخيرة إلى تسعينيات القرن الماضي، والحصار المطبق الذي فرضته دول التحالف على العراق إبَّان حرب الخليج الثانية التي أفضت بالنتيجة إلى انتشار الفقر والأمراض والجوع في العراق لسنوات.
ليساوم بذلك حينها المجتمع الدولي حكومة العراق على نفطه من خلال فرضه لمساومته القذرة (النفط مقابل الغذاء)، ولعلَّه من حيث الشكل لا يمكن ربط ذلك بما يحدث في سورية اليوم، لكنَّه من حيث المبدأ أمر وارد؛ حيث إنَّنا نجد المجتمع الدولي عاد إلى المساومة من جديد لكن بشكل آخر ألا وهو (التقسيم مقابل الأمان)، إذ إنَّه وعلى مدى سنوات الثورة السورية دخلت سورية في دوامة من العنف والاقتتال الداخلي جعلها مقسمة لأشلاء بين النظام وأمراء الحرب من الفصائل المحسوبة على الثورة المتناحرة فيما بينها، الأمر الذي غذاه المجتمع الدولي ما استطاع فضلاً عن تغاضيه عن هذا الكم الهائل من الإجرام والتدمير والتشريد الذي قام به النظام وحلفاؤه.
كلُّ ذلك كان من شأنه الوصول بسورية إلى أدنى مستويات الأمان على مستوى العالم؛ ليجد الشعب السوري في المناطق المحررة نفسه بين فكي كماشة، فمن نظام يقصف ويدمر ويقتل بما شاء من أنواع الأسلحة إلى فصائل متناحرة تعتبر كلَّ من يعارضها خطراً يهدد وجودها وتلاحق وتعتقل دون ضابط قانوني أو وازع أخلاقي.
وفي الجانب الآخر، أي في مناطق النظام، ليس الوضع بأفضل ممَّا هو عليه في مناطقنا، حيث إنَّ ميليشيات الدفاع الوطني التي أنشأها النظام مع انطلاقة الثورة لتكون يده التي يبطش بها معارضيه تحولت مع الوقت إلى قوى منفلتة من عقالها تخطف وتقتل وتسلب الناس أموالها مع عجز شبه كامل للنظام أمام عربدتها.
كلُّ ذلك جعل الشعب السوري بشقيه الثائر والمؤيد يبحث عن الخلاص بغض النظر عن الثمن والمقابل، وهذا ما اشتغل عليه المجتمع الدولي طوال سنوات الثورة وهو أن ينهك الطرفين ليكونا جاهزين لأي حلٍّ يراه مناسباً، وبالطبع سيكون مناسباً له وليس للشعب السوري.
وبالتالي كانت فكرة (مناطق خفض التوتر) التي، وإن كانت بمضمونها تشبه المناطق العازلة، كانت مطلبا ملحاً للسوريين منذ أن حرك الأسد أول دبابة له ونفذت طائراته أولى غاراتها، لكنَّها بالنتيجة لا تشابهها على الإطلاق، فالمناطق الآمنة تكون بحماية دولية لكن بإدارة ذاتية من أبناء البلد، وتصبح مع الوقت منطلقاً للثورة المسلحة للتوسع على حساب النظام وصولاً إلى إسقاطه، أمَّا اليوم فهي وللأسف ليست سوى مناطق انتداب ونفوذ للقوى المتصارعة على سورية، والمؤسف أكثر أنَّه لا بديل آخر أمام الشعب السوري الذي سيجد نفسه مضطراً للعيش تحت احتلال الدولة التي ستتولى حماية منطقته، والخيارات ليست كثيرة، ولعلَّ أفضلها هو الخيار التركي الذي يعتبر الأكثر رحمة وإحساساً بمعاناة هذا الشعب.
وفي النهاية لا بدَّ لنا أن نقر بأنَّ سورية لن تعود واحدة كما كانت على الأقل في المستقبل القريب، وعلينا من اليوم أن نهيئ أنفسنا للتعايش مع هذا الواقع المرير وننتظر معجزة تنسف ما يخطط لبلدنا وشعبنا وتقلب الطاولة على المتآمرين على قضيتنا وتعود سورية واحدة موحدة بدون عائلة الأسد التي تعدُّ المسؤول الأول والأخير عن كلِّ ما يجري.