لا شكَّ أنَّ تضارب التصريحات الأمريكية الرسمية حول سورية ومستقبل بقاء بشار الأسد في سدة الحكم ليس عبثياً، فمنذ اندلاع الثورة السورية تراوحت التصريحات الأمريكية ما بين المدِّ والجزر، فأيام الأسد المعدودة في الحكم التي تحدَّث عنها أوباما مضى عليها سنوات عجاف سال فيها دم الشعب السوري أنهاراً، ودُمِّرت فيها مدن البلاد، وشرِّد من تبقى من أهلها أحياء تحت مرأى ومسمع العم السام.
تغيرت الخريطة السورية خلال تلك الحقبة مراراً وتكراراً، النظام السوري الذي كان محصوراً في عنق الزجاجة قبل التدخل الروسي عاد ليتمدد ويسيطر على أكثر من نصف البلاد، فهل فعلاً أمريكا تخَّلت عن رأس الأسد وستسلِّم سورية للروس على طبق من ذهب؟! مع العلم أنَّ روسيا نفسها تدرك أنَّ بضعة صواريخ مضادة للطائرات ستجعل الروس يهربون من سورية إن أرادت واشنطن ذلك.
من ينظر إلى سياسة واشنطن الخارجية يدرك أنَّها لن تتخلى عن منطقة حيوية كسورية ببساطة، فحرب أفغانستان على سبيل المثال التي كلفت واشنطن تريليونات الدولارات وآلاف القتلى تأبى الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إعلان الانسحاب منها في منطقة لا تشكل أهمية تذكر مقارنة بمنطقة الشرق الأوسط، فكيف لواشنطن أن تخرج من سورية بخفي حنين؟!
إنَّ جوهر السياسة الأمريكية يكمُن في ترك الأطراف تتصارع وتستنزف بعضها البعض مع إبقاء قنوات الدعم المقنن لفصائل المعارضة، في حين إنَّها تستثمر وتدعم بشكل لا محدود قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وقد أظهرت معارك دير الزور الأخيرة جزءاً كبيراً من تلك السياسة؛ فقد سمحت للنظام وروسيا بالتمدد في البوادي والصحاري فيما أطبقت (قسد)على حقول النفط والغاز.
إنَّ التناقضات الأمريكية هي الخلطة المثالية لإبقاء جميع مفاتيح اللعبة في أيديها، فهي تعلن رغبتها في إسقاط الأسد بينما تسمح له بارتكاب كلِّ الجرائم ليبقى في السلطة وتدعي دعم الثورة السورية، في حين تمنع عن الثوار أي سلاح نوعي قادر على قلب المعادلة، وهي تدعم (قسد) عسكرياً وإعلامياً مع إبقاء عامودها الفقري pkk على قوائم الإرهاب لديها.
يخطئ من يظن يوما أنَّ واشنطن مع طرف ضد آخر في سورية، هي باختصار مع مصالحها فقط، تدعم أي طرف بمقدار ما يحقق مصلحتها، وعند انتهاء مهمته ستتخلص منه كأي سلعة تنتهي صلاحيتها.