جاد الغيث |
بدأت الحكاية باقتراح أحد أصدقائي لمتابعة جلسة تنمية بشرية عبر تطبيق (يوتيوب)، صديقي يشعر بحالة من النشوة والنشاط بعد متابعته محاضرات (بائعي الأمل الوهمي) كما يُطلق عليهم. هم أولئك الذين يقدمون لك وعودًا سحرية تجعل منك شخصًا ناجحًا ومبدعًا وسعيدًا، بعد ترديد كلمات قليلة بثقة ويقين!
فقط عليك أن تقف أمام المرآة، وتبتسم من كل قلبك وتقول لنفسك: “أنا قوي، أنا ناجح، أنا مميز، أنا سعيد” كرر هذه العبارات عشرات المرات وستحصل على ما تقوله وتركز عليه!
من جانبه صديق آخر يحمل إجازة في علم النفس وصف التجربة بعبارة أكثر عمقًا، وقد أعجبني حين قال :”ساعة بلا عقارب!” وأضاف: “أنه على مدار شهرين متتاليين كرر هذه العبارات السحرية مئات المرات دون جدوى.”
لكن إذا كانت ساعة التنمية البشرية بلا عقارب، فما سر تلك النشوة التي تتبعها؟!
يبتسم صديقي ويجيب ببساطة: “لكل إنسان طريقته الخاصة ليشحن نفسه بالمشاعر الإيجابية والحيوية، بعضهم يتابع مباراة بكرة القدم، وبعضهم يسمع الموسيقا، وهناك من يتابع سينما أو مسرح، أو يمارس اليوغا، كلها وسائل للشحن بطاقة جديدة تنتشل نفوسنا من الروتين والملل وتقاوم إلى حدٍّ ما مشاعر الإحباط واليأس التي تصيبنا بين حين وآخر”.
هذا ما يراه صديقي المختص بعلم النفس وما يؤكده المختصون أيضًا بأن ما يُسمى بالتنمية البشرية لا تستند إلى نظرية علمية واضحة، كما هو الحال على سبيل المثال، في مدرسة التحليل النفسي التي تقوم على نظرية علمية متكاملة تهدف إلى حل الصراعات بين الوعي واللاوعي في حياة الإنسان.
وبالمقابل أيضًا نجد أن (النظرية المعرفية) تقوم على أساس علمي مرتبط بمعرفة جذور الأفكار المُرضية في حياتنا وتفكيكها، لأن أفكارنا تحدد وتقود حياتنا.
وحسب الرأي الذي يأخذ به علماء الاجتماع فإن مصطلح (التنمية الإنسانية) أكثر صوابًا من مصطلح (التنمية البشرية)، لأن التنمية أصلاً لا تتعامل مع جسد بشري، فالبشر كائن يأكل ويشرب وينام ويتكاثر ويتكلم، فإذا أضفنا إلى الكائن البشري المعرفة والفن والقيم والمشاعر يصبح البشر (كائنًا إنسانيًا) ولذلك نقول: (حقوق الإنسان) ولا نقول: (كلية الطب الإنساني).
التنمية البشرية تصلح جدًا لذوي القابلية العالية للتأثر الإيحائي، وهي تلائم أكثر الأشخاص البسطاء القابلين للاقتناع بأي شيء سواء التنمية البشرية أو غيرها، أما الأشخاص التحليليين والاستنتاجيين وأصحاب التفكير الناقد والعميق، فهم أقل قناعة بدور التنمية البشرية، وأقل تأثرًا بها، فهي لا تصلح معهم.
أيضًا من يمتلك معرفة عميقة بعلم النفس والتحليل النفسي يدرك سذاجة وبساطة التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية التي لا تقنع النخبة من الناس ولا تشبه عالمهم!
إن البسطاء من الناس تشدهم عبارات التحفيز ورفع المعنويات كنوع من التعويض عن النقص الذي يشعرون به في مجتمع يغصُّ بخيبات الأمل والإحباطات التي تقلل الثقة بالنفس، وهذا ما يزيد توجه الناس نحو التنمية البشرية وتعلقهم بها، إنها تعطيهم احتياجاتهم عبر الكلمات المُفصَّلة على قياسهم، ولا شك أن الكلمة تترك أثرًا قويًّا في الجملة العصبية، ولكن ذلك الأثر عابر ومؤقت، ولا يكفي ليصنع تغييرًا حقيقيًّا وجذريًّا ،لأن التغيير السلوكي والإنجاز في الحياة لا يحدث بلمسة سحرية، أو بتكرار عبارات إيجابية مليئة بالتفاؤل، إنما يحدث التغيير بعد معرفة عميقة بالتفاصيل المرتبطة بأمر نفسي ما، ويتبع ذلك اتخاذ قرار التغيير، ومن ثم يأتي دور التصميم والمثابرة ليحدث التغيير الإيجابي ونصل أخيرًا إلى الغاية المنشودة.