لم تسهم نظريات الحداثة وما بعدها في توفير مقدار أكبر من الحرية في المجالات التي استهدفتها بقدر ما أسهمت في تنميطها ضمن قوالب جديدة لم تكن موجودة من قبل أو كانت موجودة لكنها مستهجنة.
فالحداثة وما بعدها حالة ثورية كما توصف، وربما هذا أكثر ما ينطبق عليها بكل عناد الثورات وفوضويتها وإقصائيتها المفرطة، فالثورات عادة لا تأتي بالحرية، لكنها تأتي بالمفاهيم الجديدة التي تحدّ وتحدد الحرية وغيرها من النظريات التي تحتاج الحرية لتُعلن عن نفسها ثم تعيد تعريف منطلقاتها كحقائق ثابتة تنسف ما سواها، وهو أحد أكبر المزالق التي تُعيد صناعة الاستبداد الفكري والإجرائي في المفاهيم الحداثية.
الأدب كمثال هنا، حداثيته لم تأتِ بأشكال جديدة للتعبير عنه فحسب، وإنما رفضت الأشكال القديمة ووصمتها بالرجعية والتقليدية، كما رفضت الأساليب الجديدة كلياً التي لا تحتوي برأي منظري الأدب الحداثي أي قيمة أدبية، فهي هنا أعادت إنتاج النظرية وحدّت من حرية الأدباء وأغلقت الباب أمام تجارب جديدة خارج الإطار الأدبي كما حددته النظرية الحداثية.
والنسوية كذلك، فبدل من أن توفر الحرية الأكبر للمرأة في اختياراتها، قامت بمحاربة البيئة القديمة التي تعيشها المرأة، وعدَّت أن خيارات المرأة ضمن مجالات التربية والمنزل نوع من العبودية الذي لا يتفق مع الحرية الجديدة التي يجب أن تسلكها المرأة رغم أنفها لتكون حرّة ومنسجمة مع الإطار النسوي العالمي، بل تصل بعض مبادرات النسوية اليوم إلى ممارسة إرهاب فكري على الشكل القديم لحياة المرأة وعلى حرمانها من خياراتها التقليدية وتصفها بالرجعية.
في السياسة الأمر يبدو كذلك أيضاً، فلا معنى لحرية الناس وخياراتهم مالم تنسجم مع مبادئ الديمقراطية (كاملة) والدولة المدنية الحديثة بالشكل الذي تحدده النظريات الحديثة للدولة وأدوار الشعب والسلطة فيها.
أمثلة كثيرة ربما تحتاج مقالاً مطولاً لشرح تفاصيلها، وغاية ما أودّ قوله تجاهها: إن النظرية بحدّ ذاتها لا يمكن أن تنسجم مع الحرية بمعناها المطلق، والحريات وتقديسها تكمن في فتح المجالات أمام خيارات الناس وتعليمهم لا إجبارهم على الأنماط الحداثية للحياة، فالحداثة أعادت تنميط شكل الأدب والنسوية والسياسة وغيرها من المجالات … ولم تجعلها أكثر حرية وانفتاحًا، وليس مطلوبًا منها أن تفعل ذلك، إنما أن تترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام الماضي والمستقبل لتعلن عن احترامها لحرية الناس لا إجبارهم على احترام نمطيتها.
المدير العام | أحمد وديع العبسي