الثورة ليست جغرافيا، الثورة إرادة تغيير، لذلك كنّا مؤمنين يوم خرجنا من أجمل أمَاكِنها، إننا سنستطيع المواصلة، وإنَّ جذوة الثورة لن تموت فينا، بل ستشتعل لنكون أكثر قوةً وعزيمةً فيما تبقى لنا على طريق النصر الذي نؤمن أنَّه سيأتي يوماً ما قد لا نكون هنا، ولكنَّنا سنشعر بالفخر والسعادة على أنَّنا خطونا الخطوة الأولى على وعورتها وكلفتها العالية من الدماء والدموع، سنكتب وصيتنا لكلِّ الأجيال اللاحقة بأنَّ هذه الثورة لا ترغب بالهزيمة، وسنقول لهم: أين أخطأنا وأين أصبنا، ولن نرسم لهم تلك الصورة المثالية التي ستشعرهم بالعجز أمام تكرارها.
لم نكن مثاليين قط، أخطأنا كثيراُ، وأصبنا كثيراً أيضاً، وفي خضمِّ الدماء كنَّا جشعين أحيانا، مصلحيين أحياناً، انتهبتنا الانتماءات الفارغة بعيداُ عن انتمائنا لوطننا وثورتنا ودماء الشهداء، ولقد سمحنا لأصحاب الأحلام والمشاريع ببراءة أحياناً، وبغباء أحياناً أخرى، وبشراكة الوهم والسلطة والمال في مرات عديدة بسلب حلمنا، وبإعادة تشكيله كما يناسبهم هم، لا كما يناسبنا نحن الثوار، الذين قالوا “لا” بقوة في وجه كلِّ الطغيان الذي احتملته هذه الأرض، فلم نعد نرى إلا ما يريدون، ونسينا فجأة تلك الحرية الفاتنة التي قاتلنا من أجلها عندما تقاذفتنا شهواتهم المزركشة.
لقد كنَّا واضحين جداً في البداية، كنَّا نحلم بالحرية والعدل ومحاسبة الظالمين والفاسدين فقط، لم نكن نفكِّر بشكل الدولة أو اسمها أو دينها أو إلحادها، كان يكفينا أن تتحلَّى بهذه القيم لتكون كما نريد، لم نعرف كيف استطاعوا تجييشنا تجاه أفكار متضاربة جعلتنا نقاتل بعضنا في سبيلها قبل أن نقاتل عدونا، لم ندرك أصلاً كيف جعلونا نحمل السلاح للقتال، كيف استطاعوا خلقَ وهمِ الطائفة في نفوسنا، خلقَ وهمِ الأكثرية والأقليات، ودوخوَّنا بصراعات عقيمة لا نعرف ماذا نبتغي في نهايتها، لقد حمَّلونا ما لا نطيق، حمَّلونا حروبهم التي لم يستطيعوا إنهاءها منذ زمن، لنموت نحن في سبيلها، وصارت أرضنا مرتعاً لصراعاتهم، ونحن البيادق التي تقاتل من أجل حماية مصالحهم، والكثير منَّا اكتسب إيمانا جديداً بشيء لا يشبه وطنه، صار يقاتل من أجله من خرج معه ثائراً في سبيل حريته، لقد أعادوه عبداً من جديد، عبداً أشدَّ طاعةً وعمىً عمَّا كان من قبل، لقد عرفوا جيداً كيف يجعلوه يتوهَّم الحرية في خياراتهم المحدودة جداً، بينما بقي الوطن بعيداً عن تلك الخيارات.
المدير العام | أحمد وديع العبسي