بقلم : إسماعيل المطيرلفت نظري ما قاله أحد أصدقائي منذ مدة عندما تذاكرنا بدايات الثورة واستمرارها، قال لي: “لم يعد أحد يدعي السبق في الثورة، بل صار يصرخ ورطوني .. ورطوني!”.في الحقيقة، لم يجانب صديقي واقع الحال أبداً، لكنه ربما سَها عن ذكر هوية هؤلاء، فقد اعتاد الكثيرون في بلدنا -للأسف- على التفاخر والتباهي بكل ما ينتحلونه من أفعال وأقوال حسنة طالما أنها تصب في مصالحهم، ولكنَّهم اعتادوا أكثر من ذلك على التهرب من المسؤولية، وعلى إلقاء التهم على غيرهم.كان الخروج في المظاهرات في بداية الثورة في ظل قبضة الأمن الفولاذية تضحية لا مثيل لها، وبطولة عَزَّ نظيرها، فقد كان المتظاهر الثائر يَتحيَّنُ أصغر فرصة ليصدحَ بتكبيراته وهتافاته وهو أعزل أمام نظام مدجج بالسلاح، وهو يعرف حق المعرفة أنَّه قد لا يعود إلى أهله إلَّا على نعش يحمله رفاقه في مظاهرة جديدة، وكلُّ من هؤلاء المشيعين بدوره يعرف أنَّه قد يكون الشهيد التالي، ومع ذلك كان الحماس والإصرار على الثورة دأبهم رغم كل شيء.لم يكن أحدهم يفتخر يوماً أنه أوَّل من كبَّر في مظاهرة، ولم يكن يفتخر أنَّه أوَّل من رمى حجراً في وجه رجال الأمن، ولم يفتخر بأنَّه أوَّل من اعتقل في أقبية المخابرات، لكنَّه كان يعد نفسه هبةً للثورة يعطيها ما تشاء، كان ذلك في قديم الزمان … في بدايات الثورة.ومع الانتقال إلى السلاح للقتال ضد جيش خان وطنه وشعبه، ثمَّ بعد أن اشتد ساعدُ الثوَّار وحققوا الانتصارات الساحقة وحرروا الكثير من المدن والقرى، بدأ المتسلقون يشقون طريقهم بصخب لينتهكوا جسد الثورة ويركبوا موجتها، لا همَّ لهم إلا تحقيق المكاسب الشخصية، ولو كانت على حساب دماء الناس، ظناً منهم أنَّ الثورة قد انتصرت وزال الخطر وانتهى الأمر، وأنَّ الأوان قد حان لجني ما زرعه الثوَّار الأوائل، وسقاه الشهداء بدمائهم الطاهرة، فهبوا مدعين أنَّهم هم الرواد، وأنَّهم هم الشهداء، وأنَّهم .. وأنَّهم ….، ولكن هيهات هيهات.لقد عرف المتسلقون متأخرين أنَّ الثورة مازالت مستمرة، وأنَّ الطريق مازال طويلاً وعراً، وأنَّ الثوَّار مازالوا يقدمون التضحيات واحدة تلو الأخرى، عرفوا أنَّ الثورة مسؤولية لا يحتملها متسلق، فكان لا بدَّ لهم من التخلي عن ادعائهم السبق فيها، بل صاروا يتَّهمون غيرهم بخداعهم وتوريطهم مع كلِّ كبوة تتعرض لها الثورة.” ليمحِّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين” آية كريمة صارت شعاراً للصادقين، فصاروا يعرفون أنَّ كل كبوة تتعرض لها الثورة إنَّما هي غربال لغربلة المتسلقين والطفيليين الذين انتهكوها وأثقلوا كاهلها، ويظل الصادقون وحدهم جندها المجهولين، البعيدين عن الادعاءات الكاذبة والمزاودات الرخيصة، وهم الذين لم يدَّعُوا السبق ولم يصرخوا يوماً “ورطونا”، لأنهم آمنوا بالثورة وبمبادئها، فجَرتْ فيهم كما يجري الدمُ في العروق.وليصرخ المتسلقون بعد ذلك ما شاؤوا، فليست الثورة في حاجة إلى قذارتهم أبداً.