لطالما أُدخلت الكثير من المفاهيم إلى دين الإسلام وتحولت مع الزمن إلى ثوابت عند البعض إن لم يكن عند الغالبية، وترسَّخت في الأذهان على أنَّها جزءٌ من الدين.
وممَّا يلفت الأنظار أنَّ بعض هذه المفاهيم المُدخلة تصطدم مع القرآن تماماً، بمعنى آخر تخالفها، لكن رغم تصادمها إلا أنَّ من يروج لهذه المفاهيم يحاول إيجاد تبريرات يجمل بها ما يروج له، لكن مجرد التفكر والتدبر في آيات القرآن بشكل أعمق كفيل بأن يدحض هذه المفاهيم من جذورها..
ومن بين هذه المفاهيم التي يصعب إحصاؤها هي يوم الجُمعة، فكما هو متعارف أنَّ يوم الجمعة لدى أغلب الدول – ذات الغالبية المتدينة – هو يوم عطلة، وأحدُ أسباب كونه يوم عطلة هو وجود صلاة الجمعة التي تستوجب عمل يوم عطلة كامل لها أو كما يظن البعض، فيصبح يوم الجمعة بمثابة عطلة نهاية الأسبوع، أي يوم للراحة والاسترخاء والنزهات وربما للتعبد عند البعض.
لكن بالعودة إلى القرآن، وبالأخص إلى الآيات الأخيرة من سورة الجمعة، يتبين لنا مدى تعاكس الآية مع واقعنا الذي فرضناه على أنفسنا والذي يخالف مفاهيم ديننا..
فترى الآيات:(( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون )).
ففي بداية الآيات نرى أمر الله للذين آمنوا بأن ينصرفوا عن مشاغل الحياة ليتوجهوا ساعين إلى ذكر الله، أي إلى الصلاة، وبالتأكيد هذا الأمر يعود بالفائدة عليهم، فكما نعلم أنَّ الصلاة هي كوسيلة تمدنا بالقوة وتشحذنا بروح إيجابية تساهم في جعل أدائنا أفضل، وبتذكيرنا بدور الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر تمدنا بمضادات للسلبيات والمنكرات الموجودة بكثرة في الواقع المحيط بنا، لتساعدنا على دفعها وإبدالها بما هو أفضل لدى فراغنا من الصلاة، وصلاة الجمعة لها دور مميز في جعل الأنا الموجودة في النفوس تذوب في الضمير نحن، وتدفع المؤمن وتشجعه على إكمال دوره عندما يرى بأنَّ هناك من المؤمنين ممَّن هم مثله يسعون جاهدين في حمل الأمانة التي أبت السموات والأرض من أن تحملنها، تمده بروح الجماعة التي تشعره بأنَّه ليس وحيداً في هذا الدرب…
وأمر الله لا ينتهي بانتهاء الصلاة، بل يتبعه بأمر الانتشار والسعي والعمل لتحصيل الرزق بمختلف مجالاته وأشكاله، ليعلمنا كيف نجعل حياتنا متوازنة كالتوازن الذي يتسم به دين الإسلام، فبتعزيز وتقوية الجانب الروحي يؤثر إيجابا على الجانب العملي لدينا.
وخلال سعينا في الأرض بغية العمل الجاد والمثمر، تشير الآيات أيضا بأن نبتغي ونقصد فضل الله ورضاه في كل عمل نبدأ به.. وبألا نغفل عن ذكره أينما حللنا، فهي إحدى أهم الوسائل التي تدعمنا وتساعدنا على مواصلة الطريق عبر إيماننا بأنَّ الله الذي نذكره ونبتغي رضاه قد أمدنا بمهارات وقدرات تحسن من أداء دورنا كخليفته في الأرض.. فنمضي واثقين ومطمئنين، فهو الذي بذكره تطمئن القلوب..
أما عن آية:((وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند اللّه خير من اللهو ومن التجارة واللّه خير الرازقين))..
فهي تتحدث عن فئة من الناس تحسب بأنَّ توجهها للعبادة التي هي بمثابة شحن لطاقة وروح الإنسان مجرد مضيعة للوقت، وستسبب لهم خسارة تجارة أو متعة أو لهو عابر، فتنتهي الآية بالتأكيد على أنَّ الله هو خير الرازقين لنا، وخير من يفتح أبواب الرزق أمامنا، وما عنده أيضا خير وأبقى..
مثل هذه المفاهيم تتشكل من خلال التأثر بالأديان الأخرى أحيانا، فنرى الديانة المسيحية واليهودية كلا منهما يحويان على يوم مخصص للعبادة، كالسبت والأحد، فربما كانت رغبة من بعض المسلمين بأن يخصصوا يوما كيوم الجمعة للعبادة، كما في الأديان الأخرى.. إلا أنَّ مفهوم العبادة في دين الإسلام أكبر وأوسع من أن يختزل ويخصص في يوم واحد، فبالنسبة إلينا كل عمل نقوم به بغض النظر عن الزمان أو المكان هو عبادة ما دامم يخدم الدين ويساهم في رفعة الأمة والغاية منه ابتغاء رضا الله..
وما زلت أؤمن بأنَّ ديننا الحنيف بغنى عن هذه الأمور التي ندخلها إليه ونجعلها من المسلمات، فهو دين كامل لا يحتاج لأن نجمله عبر تقليد الأديان الأخرى في سبيل إثبات أنَّنا نحن أيضا نملك ما يملكونه، كأنَّ ديننا سيفقد عظمته إن لم نقم بهذا الأمر..
ما أكثر ما علمونا إيَّاه وبنوه في عقولنا منذ الصغر! إلا أنَّه بعودة منَّا إلى ذاك الكتاب المهجور كفيل بأن يمدنا بمعول نستطيع من خلاله هدم كل الأفكار والمعتقدات البالية التي تقف عائقاً بيننا وبين فهم أعمق وأشمل لدين الإسلام.