كَسائحينَ على أعتاب الآلام مضى مقالانِ عن الحبّ، تكلَّمنا فيهما عن مرحلة ما قبل الوصال، حيث يجيش القلب بجيوشه العاطفيَّة، وتلتعج الروح بلواعج الشوق إلى نصيفها.
هناك إذْ تختنق النفس بعبراتِها فتحيا، وإذْ تغرَق الأعين في دمعاتِها فتبصرُ؛ لا يستطيع الإنسان بعدُ تغييبَ وعيه:
فكيفَ تنكر حبّاً بعد ما شهدت به عليك عدول الدمع والسقم
فيبدأ السعي إلى اللقاء، ينطلق الرجل لأجل وصل حياةٍ بحياة، يستأذن الفتاةَ أمام العالمينَ على أمل أن توافِقَ فيكملا حياتَهما سويّاً، كعصفوريْنَ بلَّلتْهما أمطار الحياة فَسَكنا إلى بعضهما.
بعدَ أن يتقدَّم الشابُّ إلى خطبة الفتاة تتحوَّل الإرادةُ منه إلى الفتاة وأهلها. يُمسكون دفَّة القيادة ويوجّهونَ سفينة العلاقة إلى نجاةٍ أو هلاك، فهيَّا نرى مسلكَ البعض منهم.
سابعاً: هل البنت سلعةٌ للتجارة باسم الحبّ؟
نسبةٌ لا بأس بها من الآباء الذين نراهم ونسمع بهم ينظرونَ إلى الشابّ المُتقدِّم لخطبة بناتهم على أنَّه كيس من الأموال. كلَّما ازدادت طيبة قلبه كان حجمُه أكبر، لأنَّه بذلك يسهل استنزافُه بل يسهل توليدُه الأموال لاحقاً.
فيا أيَّتها الفتاة الحكيمة إيّاكِ والركونَ إلى جشع الأهل. إنَّه ليس هناك قوَّة في العالم تستطيع إجبارك عن حياتك الخاصَّة، لذلك فلتكوني قويَّة في هذه اللحظات ولا تقبلي ضغطاً من أحد، لكن في المقابل على قلبك أن يختار مع عقلك.
العقل يوصي أن ترتبطي بالرجل حسنِ الخُلُق، القادر على تأمين مستلزمات الحياة الكريمة لكِ، وهذا يكفيكِ ولا حاجة لكِ إلى كلام الناس أو تفاخر القرينات، لأنَّه يعكِّر النعمة ثمَّ يزول.
أمَّا القلب فهذا شأنه لكِ، وعليكِ الإصغاء إليه في كلّ الأحوال.
فإذا وجدتِ أنَّ عقلك وقلبك معاً أرادا ذلك الشابَّ المتقدّم لخطبتِك فتشبَّثي به ولا تُصعِّبي عليه الحلال عبر الطلبات الماديَّة التي لا داعيَ لها.
ثامناً: هل يذبل الحبُّ بعد الزواج أو ينضج؟
العلاقة الزوجيَّة لا يمكن اختزالها في جسد، ومن يفعل ذلك خَسِر، لأنَّ الجسد كيان خدَّاع، وهو كالأفعى يظلُّ يراوغ ويمكر بك حتَّى يلسعك واحدةً لا تقوم بعدها.
وبالتالي فإنَّ الإنسان الذي لا يستطيع أن يرتقيَ بإنسانيَّته فوق أنانيَّة الجسد لن يعرف الحبَّ على معناه، ولن يحياه حتَّى لو بلغت خانات دفتره العائليِّ آلافاً.
حينما يدرك الإنسان تلك الحقيقة يتوجَّب عليه أن ينظر إلى علاقته مع أُنثاه من منظور مغاير.
إذا فعل فإنَّه يستطيع حينها أن يرى في قراءته لكتاب ما مع زوجته ثمَّ مجادلته إيَّاها حول مدلول ما من مدلولاته معنىً عميقاً من معاني الحبِّ والزوجيَّة.
نعم، تستطيع الزوجة حينها أن ترى في جبين زوجها الغارق في العرق حين يعود من عمله معنىً عميقاً آخر من معاني الحبِّ والزوجيَّة.
فقط حين يكون الزوجان على هذا المستوى من الوعي نستطيع حينها أن نقول: إن حبَّهما لا يقتله زمان أو تلعبُ فيه عوارض حياة.
ولكن للأسف، مجتمعاتنا لا تزال بعيدةً أشدَّ البعد عن هذه الصور التي نرسمها لأُسَرها.
هذا البعد، وبلا أدنى شكٍّ كما هو حال سائر الآفات، مردُّه إلى الجهل الذي يُثبِّط الإنسان عن إنسانيَّته، ويأسره عن الارتفاع إلى الأعالي بأقذر الأغلال.
تلك الأغلال لا ولن تحطَّم إلَّا بالمعرفة، لن تحطَّم إلَّا حينما نفتح علاقةً جديدة مع صفحات الكتب.
فمتى سنفعل؟ ومتى سنثقُ بالقراءة مخرجاً لأكثر مشاكلنا واستعصاءاتنا الحياتيَّة؟
في الحقيقة لا يهمُّ معرفة متى سيحصل ذلك ولا كيف سيحصل، بل الأهمُّ أن نعرف أنَّه لا يحقُّ لنا أن نحلمَ حتَّى نبدأ بالقراءة وبتقدير المعرفة.
عند هذا الحدِّ أختتم كلامي عن الحبّ، متمنِّياً لكم دوامَه وفيض جماله، راجياً أن تكونوا قد استمتعتم بالمقالات الثلاث عنه ونِلتُمْ فائدتها المرجوَّة.