محمد نعمة |
في الوقت الذي تشتد به الأزمة السورية على كل الصعد ويصبح المجتمع بحاجة لتضافر أبنائه أخلاقيًا أكثر من ذي قبل، صرنا نسمع عن فقدان بعض الأخلاق بشكل غير مسبوق كظاهرة سورية أفرزتها الحرب.
ربما مرد ذلك إلى وجود إشكال عند من بدأت لديهم الحرب وهم في سن الطفولة أو الشباب المبكر وأصبحوا اليوم شبابًا أو أرباب أسر، ممَّا يعني وجود جيل اسمه (جيل الحرب) يترافق ذكره مع ضياع شيء من المنظومة الأخلاقية القيمية للشعب السوري علمًا أنه من المفترض أن الأزمات تدعو للتمسك بالقيم الأخلاقية والدينية حفاظًا على الفرد والمجتمع على حد سواء فما سبب تلك المفارقة؟
إن المفهوم العام للأخلاق هو عبارة عن منظومة القيم (كالكرم والعفة والمروءة) التي نشأت وتطورت ضمن السياق الاجتماعي باعتبارها ذات صبغة قانونية مقدسة يحافظ المجتمع عليها لأنها تضمن سلامة المجتمع نفسه وتعبر عن منتجه الحضاري ولذلك قال الشاعر العربي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإذا هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
تستمد الأخلاق من المؤسسات التي تُعلِّمها للفرد وهي مؤسسة الأسرة والحي والمسجد، والمدرسة التي تعلم الأفراد الحلال والحرام، المسموح والممنوع، الجائز والمباح والمحبب، وهذه المؤسسات معظمها إما افتقد أو غُيِّب دوره لعشرات الأسباب التي أفرزتها الحرب فضلًا عن دوره النظام في تغييبها على مدار عقود.
يضاف إلى ذلك صدمة انتزاع الفرد من محيطه وتعرض حياته وأحبائه للخطر، هذا بالإضافة إلى وضع المجتمع ككل في محل امتحان الحفاظ على الذات بسبب الأزمات الاقتصادية وتهديد الحياة، مما يعني التخلي عن جزء من المنظومة القيمية لدى البعض أو ربما كلها أمام منطق المصلحة.
كل هذه عوامل تضافرت في انقطاع رفد التربية الفردية بالقيم المفترضة، وعلى مدار سنوات الحرب الشديدة انتهت المنظومة القيمية القديمة (كموضوع إغاثة ملهوف يطلب استئجار منزل أو أرض للمبيت) وحلت مكانها موضوع المنفعة والمصلحة المباشرة باعتبارها تدر أساليب نجاة، إلا ما ندر.
أما عن السبب الذي يدفع الناس للسكوت عن مثل هذه التصرفات الغريبة عن الشعب السوري بشكل عام، ( كاعتبار الناس حوادث سرقة الأموال العامة كشبكات الإنارة والكهرباء أمرًا عاديًا) فهو أن الخطأ والجرم الأخلاقي عندما يرتكب بصورة متكررة ومن قبل جماعات يعتبر أمرًأ عاديًا، أما إذا ارتكب بحالة فردية يحاربه المجتمع بكليته قبل أن يتم ردعه بالقوانين.
إن مفاهيم مثل (عدم الاستغلال، والغاية لا تبرر الوسيلة، وقول الصدق..) بدأت تُزاح أمام حلول ثقافة (حلال على الشاطر، نحن في حرب وأنا أحق من غيري، ألف أم تبكي ولا أمي تبكي..) لدرجة أننا بتنا نرى إتاوات الطريق على الحواجز العسكرية تحولت من أمر منبوذ ومحارب، إلى أمر معتاد وفقدانه هو الحالة الغريبة، بل أصبح مفهوم النظر إلى السرقة في حالة تعرض شخص ما إلى النهب أن الشخص هو الملام لاصطحابه مبلغًا ماليًا وليس السارق ودوافعه.
حتى أن مفهومًا كبيرًا (كالوطن) مثلًا يُمسَخ بين وطن هو مصدر ألم وعذاب لا قيمة له بالنسبة إلى الفرد، وبين وطن هو مصدر رزق قيمته مستمدة بقدر الفائدة التي يقدمها، وقد يكون ذلك مبررًا بمنطق من لم يرَ من الوطن إلا الخذلان والفقدان بدلًا من العطاء والأمان.
وهكذا تُصيب الحرب منظومة القيم الأخلاقية وتأكل في بعضها، مخلفةً مشكلة كبيرة على صعيد الوطن ككل، يصعب إصلاحها مع بقاء وجود المخرب الأول للدولة والمجتمع وهو النظام السوري، لكن المعول عليه هو الروح الحضارية والدينية للسوريين التي نعقد الأمل عليها عندما ترفض في كل موقف تضامن كل مفرزات الحرب وتستدعي موروثها القيمي لمواجهة ما يطبعه الأسد بحربه من قيم توحش وأنانية واستغلال.