أ. عبد الله عتر |
الحرية موصولة بنتائجها، والنتائج تختلف باختلاف الاختيارات، والاختيارات تكون ضمن معطيات ومحددات.. هكذا تفتح سورة الشورى فصلاً جديدًا من فصول الحرية، بعدما بينت أن الحريات تحتاج معها إلى أخلاقيات وتشريعات منفتحة على الوحي (راجع المقالة السابقة).
تشرح الآية (7) ذلك: ((وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ))، بعد أن تُرينا السورة سكان الأرض الذين يتوجه إليهم، تخطف قلوبنا وعقولنا وتذهب بنا بعيدًا في المستقبل: انظروا ماذا يجري هناك.. نرى سكان الأرض مجتمعين في يوم الجمع، جمع مَن مع مَن؟ يخبرنا المفسرون أنه يجتمع الظالم والمظلوم، يجتمع الرجال والنساء، يجتمع المرء وعمله … فجأة ينتهي هذا الاجتماع العظيم ويتفرق الناس إلى فريقين، أحدهما إلى الجنة والآخر إلى الجحيم.. ما هو السبب الذي لأجله اختلفت النتائج النهائية؟ هكذا رسمت السورة سردية إنسانية كونية تقع في وسطها حرية الاختيار، لنتابع …
الحرية فطرة محمية
التقط المفسرون هذه الرسالة ببراعة، وشرحوا أن السبب في اختلاف مصير الناس هو اختيارهم، فالاختيارات العاقلة تؤدي إلى الجنة، والاختيارات الجاهلة تودي إلى الجحيم.
واللافت للنظر أن هذه الآية وقعت بين آيتين في حرية الاختيار، الآية (6) التي أكدت أن الله حفيظ يحفظ للناس حياتهم واختياراتهم ويمنع الرسول أن يجبر أحدًا على دينه: ((اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ))، والآية (8) التي أكدت أن الرسول لا يقدر على إجبار أحد على العيش والتدين بالإسلام، لأنه ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً))، لكنه لم يشأ ذلك، بل شاء في الأزل مشيئة أخرى وهي أن يخلق الناس أحرارًا يختارون. يذكر أبو السعود وغيره من المفسرين (الرازي وابن عجيبة وابن عاشور) أن اختلاف الداخلين إلى الجنة أو النار إنما هو “بسبب اختيارهم”.
إذن.. حرية الاختيار أصيلة في فطرة البشر لا تبديل لخلق الله ومشيئته.. وعلينا الانتباه إلى أن حريات الاختيار ستجعلنا مختلفين وتأخذنا لطرق مختلفة ((فريق.. وفريق))، هذا قدر كوني علينا الإيمان به والتعامل معه..
تختار النتيجة مع اختيار الفعل
كل فعل نختاره نختار معه نتائجه في الوقت نفسه ، حين يختار أحدنا الصوم فقد اختار العطش، وحين يختار الكذب فقد اختار عدم الثقة به، وحين يختار مجتمع ظلم النساء فيه فقد اختار نوعية حياة أسوأ للجميع.
نظريًا يبدو هذا سهلاً، لكن عمليًا يصبح الأمر معقدًا أكثر، أحيانًا تجد الكثيرين منّا لا يقنعون به، نريد الفعل وننسى أن نتيجة الفعل ستخيم فوقنا قريبًا، من يسرف في تناول الطعام يحصد النتيجة بالبدانة والأمراض الصديقة لها، إنه اختار البدانة حين قرر أن يسرف بالأكل.
في أحيانٍ أخرى، تحصل أخطاء فادحة في تقدير النتيجة المترتبة على الفعل، وجزء كبير من المصائب التي تصيب الإنسان تندرج في هذا المنطق، ولذلك ستأتي سورة الشورى بعد قليل لتصرح بهذا: ((وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)). المصائب نتائج سيئة تقع فوق رؤوسنا بسبب اختياراتنا.
نطاق النتائج المترتبة على الحرية
نحلم أحيانًا أن نختار أشياء دون أن تترتب علينا نتائجها، وفي بعض الحالات نكذب على أنفسنا ونصدق ذلك، “لا عليك يا صديقي.. افعلها وستكون الأمور على ما يرام”، رغم أن كل المعطيات والمؤشرات تخبر أن هناك كارثة ستحل.
الحريات تُمارس ضمن معطيات ووضعيات ومحددات يتولاها القدر، ولا تمارس الحرية في الفراغ، هذه المعطيات هي التي تحدد نتائج الاختيار، لماذا نفقد ثقة الناس عندما نكذب؟ لأن الصدق يدخل في عناصر الثقة، إنه معطى وجزء من المدخلات التي تنتج ثقة، حين نستخدم حريتنا علينا أن نفهم جيدًا شبكة المعطيات الفعلية التي ستحدد النتيجة. هذه النتيجة نرى بضعها في نطاق الدنيا، لكنا سنراها كاملة في نطاق الآخرة جنة أو سعيرًا.
من المهم أن تختار بحريتك.. ومن المهم جدًا أن تكون قد اخترت نتائج حريتك بوعي، فالمستقبل قابع في نوعية اختياراتك اليوم، ولا تنخدع بمجرد أنك تقوم بعملية اختيار، فهذا شأن المبتدئين في ممارسة الحريات.