أ.عبد الله عتر |
“حريات الاختيار ستجعلنا مختلفين وتأخذنا إلى طرق مختلفة.. هذا قدر كوني علينا الإيمان به والتعامل معه”، كانت هذه إحدى نقاط الذروة في الآية (7) من سورة الشورى. إذن، كيف سنتعامل مع الحريات في مجتمعات متنوعة دينيًا وعرقيًا؟ كيف ندير الاختلاف على قاعدة الحريات طالما أن الحريات تؤدي للاختلاف بطبيعتها؟
نتيجتان لممارسة الحريات
إذا كان الاختلاف هو الوجه الخلفي للحريات، فإن التوافق هو الوجه الأمامي، هذا ما علينا أن نؤمن به ونعمل عليه إن أردنا العيش المشترك في جماعة متماسكة (عائلية، أو دينية، أو وطنية، أو أممية) ينحسر فيها الصراع إلى حده الأدنى، والسؤال: كيف تشير سورة الشورى إلى ذلك؟
توسعت السورة في بداياتها وهي تشرح ظاهرة “الاختلاف” الناشئ عن الحريات المتعددة وتضعها في أوسع نطاق يمتد من الدنيا إلى الآخرة، خاصة في الآيات (7، 8، 14، 15)، في المقابل ركزت السورة في بداياتها ونهايتها على ظاهرة “التوافق” الناشئ عن الحريات المتعددة، وشرحت كيف ندير خياراتنا المتعارضة بطريقة تبني التوافقات أو تمنع الصراعات، خاصة في الآيات (10، 15، 38).
هناك تيارات معاصرة تركز على ربط الحرية بالاختلاف، ثم تحتفل بالاختلاف بوصفه أوضح مؤشر على وجود الحريات، ومن هذا المدخل تبرر وجود سلوكيات منحرفة وتوجب على المجتمع أن يعدَّها قانونية، برأيي أن هذا توجه قاصر لا يرى من الحرية إلا وجهها الخلفي، في المقابل هناك تيارات معاصرة تقمع الحريات لأجل ضمان التوافق الدائم، فينتج توافق هش كاذب..
يبدو، والله أعلم، أن المقاربة التي تقدمها السورة لهذه الإشكالية، هي أن الاختلاف والتوافق كلاهما ناشئ عن الحريات من حيث الطبيعة والواقع، وكلاهما مهم يجب الحفاظ عليه من حيث الثقافة والحياة والتشريع، يبقى الأمر في ترسيم حدود الاختلاف والتوافق ضمن حقل الحريات. كيف يكون وعلى أي أساس ومن يحدده؟
ثلاثية الشورى والوحي والآخرة
تأتي السورة لتقدم بشكل مباشر ثلاث آليات لترسيم الحدود بين ما يمكن الاختلاف فيه، وما يجب التوافق عليه، والاختلاف والتوافق كلاهما مبني على قاعدة الحريات.
مرجعية الوحي
واحدة من أهم آليات ترسيم الحدود، وجود مرجعية مشتركة يتم الاحتكام إليها عند الاختلاف والتوافق، الاحتكام الديني والأخلاقي والمعرفي والتشريعي والمعاشي، حتى تكون هذه المرجعية محايدة وغير منحازة يتساوى أمامها الناس جميعًا يجب أن تكون مرجعية الله عز وجل: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)).
أشار المفسرون إلى أن هذه المرجعية لن تحسم كل اختلاف فضلاً عن كونها لم توضع لذلك؛ لأنها في كثير من الأحيان تُحيل الأمر في نهاية المطاف إلى أفهام الناس ومصالح الدنيا، مرجعية الوحي ترسم جزءًا من حدود الاختلاف والتوافق، لكنها تترك مجالاً واسعًا لنا.. ماذا نفعل إذن؟
مرجعية المجتمع
الآلية الثانية هي الشورى، الشورى ليست مبدأ أو قيمة كما يبدو للوهلة الأولى، الشورى هي الوسيلة والآلية المرنة التي تحقق مبدأي الحرية والعدل (تكررا بكثرة في سورة الشورى وارتبطا بالتشاور)، وحين شرحها المفسرون شرحوها بوصفها آلية عملية لإدارة اختلاف الأفراد وبناء التوافق والألفة والتعاضد بينهم، فهي تطبخ الحريات الفردية لتنتج توافقًا أو تفهُّمًا لا اختلافًا.
وقد جاءت الشورى في لقطة عالية الدقة: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)(، فالاستجابة العامة لأمر الله سيبقى معها اختلاف خطير، آلية معالجته كامنة في التشاور بمستوياته وأشكاله التي لا تنتهي.. من الأسرة إلى السلطة، والتوافق الحقيقي هنا هو التوافق القائم على الحريات والعدالة من خلال آليات الشورى.
ومن يُسرِع السير نحو الحريات سيهوي في وادي الفوضى والاستبداد الثاني إن لم يكن مزوَّدًا بترسانة قوية لإدارة الاختلاف، نقطة المركز في هذه الترسانة هي الشورى بوصفها آليات ونظم، أي بالمعنى الإجرائي الذي شرحه المفسرون.
ضمان حماية الاختلاف.. الإيمان بالآخرة.
الله وحده الذي يحاسب ويجازي ويفصل القضاء بين المؤمنين وغير المؤمنين، لم يوكل أحدًا بذلك، وأخّر الأمر إلى يوم القيامة: ((وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ)). هذه ضمانة لحق كل شخص في اعتناق الدين، المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم، أي أن السورة استعملت الإيمان بالآخرة لتأسيس مساحة اختلاف دينية واسعة لا يحق لأحد أن يجبر غيره على التوافق معه على معتقده.