أ.عبد الله عتر |
الاختلاف أحد قواعد الخلق الراسخة التي خُلق عليها الناس، والاختلاف يُخفي تحته حريات سمحت بوجوده، حريات التفكير والقرار والفعل تجعلنا مختلفين.
فهِم المفسرون -كالبقاعي- أن سورة الليل افتتحت بذكر المختلفين حسًا (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى)، ثم أتبعت ذلك بالمختلفين إرادة واعتقادًا وفعلاً (إن سعيكم لشتى)، فأقسم بالليل والنهار وخلق الذكر والأنثى على أن سعي الناس مختلف، وهذا يدل أن اختلافات الناس وما تتضمنه من حريات إنما هي حلقة من نظام الاختلاف الكوني. أي أننا أمام مبدأين: الأول حريات الاختيار، والآخر مقبولية الاختلاف.
لنفترض أن (1000) شخص دخلوا السوق أول السنة وراحوا يمارسون حريتهم وسعيهم التجاري والصناعي، وكان لديهم الثروة والمكانة الاجتماعية نفسها، في آخر السنة نجد أن (100) منهم خسروا كل ما لديهم وأصبحوا في خط الفقر، و(100) ربحوا ربحًا كبيرًا، و(800) ربحوا أرباحًا متفاوتة، رغم أنهم بدؤوا من نقطة انطلاق واحدة، إلا أن إمكاناتهم واختياراتهم المختلفة أوصلت إلى أوضاع ونتائج مختلفة.
حسب منظور المفسرين فإن كل ما جرى حتى الآن طبيعي ومقبول، فوفق المبدأ الأول (الحرية) يتم الاعتراف بالملكية الخاصة، وبما أن الحرية الاقتصادية اشتغلت فمن الطبيعي أن يختلف الوضع المالي بين الأشخاص، وذلك وفق المبدأ الثاني (الاختلاف) الذي يؤكد مقبولية الاختلاف ويمنع استئصاله أصلاً. السؤال الآن: كيف يمكن إدارة هذا الاختلاف؟ وهل هو مقبول شرعًا في كل درجاته ونتائجه؟
صدمة الحريات والاختلاف
هذه هي “صدمة الحريات والاختلاف” التي يجب مواجهتها بجرأة وشجاعة، والتخلص من عقدة أن الحريات والاختلاف مقبولان ومنسجمان طوال الوقت، فالاختلاف -إذا بلغ درجة معينة- يخنق الحريات ويقضي على الناس عندما يحرم الناس من حريات أساسية في العيش والتعليم والصحة والعمل والزواج. ما يمكن فهمه من أطروحة المفسرين في معالجة تلك الصدمة أنه يجب إضافة مبدأ ثالث، والفكرة الرئيسة للمبدأ الثالث أنه يجب تنظيم الحريات والاختلاف بطريقة تضمن حفظ الحقوق والحياة اليُسرى؛ كلما حفظنا الحقوق الأساسية للناس وحققنا حياة أكثر يسرًا وراحة للناس وتوفيرًا للمصالح وطيب العيش.
النقلة من ظاهرة الحريات والاختلاف إلى الحقوق والحياة اليسرى التي يجب أن تظلل الحريات والاختلاف؛ هذه نقلةٌ أنجزها القرآن نفسه، فبعد أن قرر حقيقة الاختلاف الناشئ عن الاختيارات والمساعي المتنوعة: (إن سعيكم لشتى)، شرح المقبول والمرفوض من تلك الاختيارات والنتائج المترتبة عليها: (فأما من أعطى.. فسنيسره للعسرى). التقط المفسرون مغزى هذه النقلة ومشوا معها.
معيار حفظ الحقوق.
بدأ المفسرون بتحديد ما سكتت عنه الآيات: أعطى ماذا وبخل بماذا؟ رجَّح جمهور المفسرين أن المقصود العام هو “الحقوق”، حقوق الناس وحقوق النفس وحقوق الله، ويكون المعنى: فأما من أعطى الحقوق واتقى، وأما من بخل بالحقوق فلم يؤدِّها واستغنى. هذا المقصود العام، أما المقصود المحدد الظاهر فهو إعطاء “الحقوق المالية للناس”.
هكذا تبلور معيار الحقوق وأصبح موجِّها لتنظيم الحريات والاختلاف، لذلك فهو يعمل وفق إجراءين:
- ربط الاختيارات الفردية بالحقوق: فتتسع الاختيارات الفردية باتساع الحقوق وتضيق بضيقها، فلا يجوز لشخص أن يسرق أو يغش أو يشتم.
- ضبط درجات الاختلاف بالحقوق: فإذا بلغ الاختلاف درجة خطرة تؤثر على الحقوق الرئيسة لبعض الناس، وجب التحرك لإعادة الاختلاف إلى الدرجات المقبولة، ولو اقتضى ذلك تحديد حريات البعض.
نعود إلى مثالنا عن الـ (1000) شخص الذين دخلوا السوق، خلال تعاملهم الاقتصادي فيما بينهم يجب أن تكون حريات كل واحد مضبوطة بحقوق الآخرين، فلا يسرق ولا يغش ولا يتحايل ولا يحتكر، رغم ذلك سنأتي بعد فترة ونجد أن بعض هؤلاء قد خسر أغلب ماله وصار فقيرًا، وبعضهم ربح وصار غنيًا، هنا يجب التدخل -وفق الإجراء الثاني- من أجل إعادة التوازن للاختلاف.
يجب أن نرفض الاختلاف عندما يصل إلى درجة الفقر، وأن نتحرك لأخذ نسبة من مال الغني -زكاة- وتحويلها للفقراء، هذا الاقتطاع هو تقييد جزئي لحريات اقتصادية يتمتع بها الغني، لكن المبرر له أن الاختلاف بلغ درجة خطرة جعلت بعض الناس محرومين من الحاجات الأساسية للعيش، فالفقير يجد نفسه محرومًا من حقوق أساسية هي في الحقيقة حريات التعلم والتمتع بالصحة والأمان.