من الجانب الفلسفي والنظري لا تتعلق الحرية بمفهومها العام بالقوة، ولكن تتأثر بها طردًا على الدوام، فكلما اتسعت دائرة القوة، اتسعت في المقابل دائرة الحرية أو الحريات الممكنة، وكلما تقلصت هذه الدائرة نجد الحريات في تقلص، فالمدير مثلاً يمتلك حرية في عمله تفوق موظفيه، والغني يستطيع ممارسة حرياته بشكل أوسع من الفقير، حتى حرية التفكير تتأثر بالقوة، سواء بمفهوم الهيمنة، أو عن طريق السعة العلمية، فالمتعلم يجول في مساحات تفكير أوسع بكثير من تلك المتاحة لغير المتعلم.
هذا التفاوت في مقدار الحرية وارتباطها بالقوة، هو تفاوت طبيعي بين الناس يرجع إلى أصل الخليقة والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يوجد فيها الإنسان، والممكنات التي يمكن أن يحصل عليها ليمارس حرياته.
أغلب النظريات الفلسفية التي حاولت المساواة بين الناس لم تستطع أن تحل هذه الإشكالية (موقف الناس من حرياتهم) أمّا النظرية الدينية فقد استطاعت حل هذا الإشكال في أصل رسالتها عندما ربطت الحرية بالتكليف (لا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتاها). فالحرية ليست مطلقة إلا في أصلها كمفهوم، أما في التطبيق فهي محدودة في الشرائع والقوانين وكل ما ينظم المجتمعات، ومنذ الخيار الأول للإنسان يبدأ هو بتقييد حرياته وفق تلك الاختيارات المتلاحقة، وقد أُعطيت له الحرية من أجل أن يحدد هذه الخيارات والتقيدات بملء إرادته الحرة، ولكن لا يسعه في كل الأنظمة الدينية والدنيوية أن يحدد بنود تفصيلية في التزاماته؛ لأن الالتزامات التي يختارها تأتي مرتبطة ببعضها، وأي تهاون في هذه الالتزامات عندما يختار أن ينصاع لدستورها بملء إرادته الحرة سيرتب عليه قائمة عقوبات تتبع لذلك الدستور مهما كان مصدره.
تبدو هذه المقدمة طويلة جدًا في الوصول إلى ما أريده الآن، لكنها ضرورية لفهم حرية الناس وكيف تتقاطع مع حريات الآخرين، وكيف تتأثر بالعوامل المحيطة، وكيف تتم صناعة بعض الحريات والتعبير عنها وفق إرادة أصحاب القوة، وكيف يتم تجاهل بعضها الآخر أو عدّها تطرفًا أو إرهابًا فقط لأنها لا تتقاطع مع المصالح المسيطرة.
ما يجعل من الشذوذ (المثلية) حريةً هو قرار دولة كبرى، وما يجعلها شذوذًا ومرضًا نفسيًا وعارًا على المجتمع هو قرار من ذات الدولة، هذه هي الحقيقة التي يحاول تجاهلها المتنطعون الذين يدّعون أنهم مدافعون عن الحريات، هم فقط اختاروا العبودية للأنظمة العالمية السائدة، والدفاع عن قيم تلك الأنظمة.
أمّا نحن فعلى الأقل ما زلنا نمتلك حريتنا الكاملة في تجاهل تلك الأنظمة وقيمها، والتمسك بالقيم التي نؤمن بها، ومحاربة هذه المظاهر الشاذة على أنها نوع من الإرهاب والكراهية ضد عموم الناس ومعتقداتهم، والمليئة بخطاب الكراهية لمن لا يؤمنون بهذه القيم البائسة التي تجعل العالم كومةً من القرف.
المدير العام | أحمد وديع العبسي