الخطاب الديني ودوره في صناعة الطواغيتبقلم: الصاحب الحلبيأحدث قيام الثورة اضطراباً هائلاً في المجتمع السوري، الذي اتسم خطه البياني بالثبات الظاهري، وإن كان يغلي غلي الحمم في جوف البركان، طيلة عقود من حكم الطاغوت الأب ومن بعده الطاغوت الابن. هذا الاضطراب امتدّ، فيما امتدّ إليه، إلى الخطاب الديني، الذي كان يتسم بالثبات الظاهري هو الآخر، فتزلزل زلزالاً شديداً. وشهد تحولات كبيرة في شكله ومضمونه، وكان له دور خطير في مسار الثورة ومواقف الناس منها.الخطاب الديني في سورية في بداية الثورة:بدأت الثورة بداية سلمية، تجلّت في المظاهرات التي تطالب بالإصلاح، وتصدى لها النظام بشراسة وقسوة، وسرعان ما ارتفع سقف مطالب الثورة إلى أن وصل إلى المطالبة بإسقاط النظام، ثم تحوّلت إلى ثورة شعبية مسلّحة، وكان للخطاب الديني في هذه المرحلة خصوصية واضحة، فقد كانت الثورة في بداياتها ضبابية الملامح، وكثير من الناس يتلفتون بحثاً عمّن يرشدهم إلى سواء السبيل، وبرز الخطاب الديني مرشداً ودليلاً. وبرز أصحابه في تنوّع واختلاف واضحَين، بتنوّع المواقف من الثورة واختلافها. فظهر خطاب ديني يدعو للثورة ويحرّض على استمرارها، وخطاب يقف ضدها بصراحة ووضوح، وخطاب ثالث رمادي، لا يتخذ أصحابه موقفاً واضحاً من أحد الطرفين.1- الخطاب الديني الثوري:انطلقت المظاهرات من المساجد، وحملت شعارات واضحة الدلالة على الانتماء الديني للمتظاهرين؛ (قائدنا للأبد سيدنا محمد، هي لله هي لله، تكبير…). فكان خطابٌ دينيّ عفويّ في مواجهة الخطاب البعثي الخبيث المنهجي، الذي دأب النظام على تلقينه لأبناء سورية ردحاً طويلاً من الزمن. ذلك الخطاب العفوي، دفع بكثير من الخطباء المتحمسين، للمخاطرة في مواجهة قمع النظام الوحشي، الذي واجه الكلمة بالرصاص. ووقع على هؤلاء عبء مساندة المتظاهرين، والصدع بكلمة الحق، والتعرض للملاحقة والاضطهاد من قبل النظام.وكان الأمر في بدايته شديد الخطورة، حتى كان بعض خطباء المساجد من الثوار يتقنّعون على المنابر كيلا تنكشف شخوصهم، وكان الخطاب الديني الثوري في تلك المرحلة يتسم بالحماسة والعاطفية ويركز على إثارة غضب الجماهير وفضح جرائم النظام وأفعاله المنافية لكل ما هو إسلامي وإنساني، واستثارة النخوة والحمية للخروج والمشاركة في التعبير عن الرفض والاحتجاج. وكان له دور بارز في زيادة الصبغة الدينية الإسلامية، الموجودة أصلاً، على المظاهرات، وحثّ الشباب خاصة على الاستمرار والاستبسال في التظاهر.2- الخطاب الديني المؤيد للنظام:استنفر نظام البعث خطباءه الذين أعدّهم لمثل هذا اليوم، لينافحوا عنه، في مواجهة الخطاب الديني الثوري المعادي له. واستغل مكانة المشاهير منهم في قلوب الناس، لحشد السوريين ضد الثورة، أو على الأقل منعهم من المشاركة فيها أو مساندتها بأي طريقة كانت. واستجاب هؤلاء للنفير فانتفضوا ضد الثورة بكل طاقتهم، ولم يدّخروا وسعاً في مهاجمة المتظاهرين، فالمتظاهرون، في نظر هؤلاء، متمرّدون على الحاكم المسلم، مخرّبون للمجتمع الآمن، مدمنون على المخدرات، عملاء للاستعمار، لا تعرف جباههم السجود… في قائمة من النعوت السيئة المنفّرة لا تكاد تنتهي.وكان تأثير هذا الخطاب في نفوس أتباعه كبيراً، وقد أثّر سلباً على انتشار الثورة في قطاعات واسعة من المجتمع. إضافة إلى الفتاوى التي أصدرها أصحاب الخطاب المؤيد للنظام؛ بتحريم التظاهر شرعاً. ودورهم الأمني في الإبلاغ عن التظاهرات، ورفع أسماء الناشطين المؤيدين للثورة إلى فروع المخابرات، سواء كانوا من عمّار المساجد، أم كانوا من طلبة العلم الشرعي.3- الخطاب الديني الحيادي (الرماديون)اشترك في هذا اللون من الخطاب الديني، في بداية الثورة السورية، معظم الذين كانوا قبل الثورة من أصحاب الخطاب الذي يدعو أتباعه إلى تجنب السياسة.كان الخطاب الديني الحيادي يركّز في بداية الثورة على فكرة الفتنة. فكل ما يحصل في سورية، في رأي هؤلاء، إنما هو فتنة. وينبغي على المسلم اعتزال الفتنة “ولو أن يعضّ بأصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ذلك”. لذلك على المسلم أن يتجنب المظاهرات والهتافات التي فيها انتقاد للحاكم لأنها تشعل نار الفتنة.واستطاع المشاهير من أصحاب هذه الخطاب أن يؤثّروا على مسار الثورة كذلك، لأن أتباعهم يتفوقون في العدد على أتباع مشايخ السلطان، وهم يتميزون، استناداً إلى تربيتهم الدينية لدى الشيخ، بالطاعة العمياء، ولا يحتاج شيخهم إلى إقناعهم، بل يكفي أن يأمرهم فقط، وهؤلاء بلا استثناء اعتزلوا الثورة من البداية.وهكذا فإن الخطاب الديني بأصنافه الكثيرة قبل الثورة، قد تم اختزاله إلى ثلاثة من الأصناف في بداية الثورة، تبعاً للموقف الذي اتخذه أصحاب هذا الخطاب أو ذاك، لكن الجديد بروز الخطاب الديني الذي أسهم في هدم الطاغوت، إلى جانب أصناف الخطاب التي أسهمت في صناعته.