بقلم: الصاحب الحلبيساهم الخطاب الديني في سورية قبل الثورة، على مدى عقود، في صناعة الطواغيت، جنباً إلى جنب مع عوامل السياسة والاجتماع والاقتصاد، كما انتفض الخطاب الديني مع انتفاضة الأمة في وجه الطاغوت لإسقاطه وتدميره، فكان خطاب ما بعد الثورة متنوّعاً مختلفاً عن خطاب ما قبلها، في الأهداف والطرائق والمحتوى والنتائج.الخطاب الديني في سورية بعد الثورة:حرّر الثوار المجاهدون مساحات واسعة من سورية، وصار المجال متاحاً أمام السوريين للتعبير بحرية عن موقفهم من النظام والصدع بكلمة الحق، الأمر الذي كان حلماً بعيد المنال لعقود طويلة خلت، وأضحى الخطباء مطالبين بالخوض في موضوعات كانت محرمة عليهم أربعين سنة، الأمر الذي لم يطقه كثير منهم، ففضّل الانسحاب في هدوء على الدخول في المحظور.وأدى انسحاب هؤلاء الخطباء إلى فراغ كبير في مساجد المناطق المحررة، فتصدّى للأمر من ليس له سابق عهد بذلك المجال، وتسنّم منابر الخطابة والتدريس أناس لم يعتد الناس على خطابهم الديني، وبدأ نوع جديد من الخطاب الديني يتجلّى وتتضح معالمه في سورية الحرّة.الخطاب الطاغوتي (شبيحة المنابر)فأما أصحاب الخطاب الطاغوتي الذين كانوا خطباء السلطان، وأعلنوا عداءهم للثورة منذ البداية، فقد تحولوا إلى شبيحة بكل ما للكلمة من معنى، شبيحة فكر وعقيدة، شبيحة يعتلون المنابر، يقصرون الدين على تأليه الطاغوت، ويزعمون في خطابهم الديني التشبيحي أنّ الطاغوت متصل بمدد السماء، وأن زبانيته هم جند الله والمدافعون عن دينه وعليهم سينزل نصره، وأن أعداء الطاغوت هم أعداء الله.وقد صار هؤلاء سنداً حقيقياً للطاغية في مواجهة الصبغة الدينية للثورة السورية، وبرغم جهودهم الحثيثة في الدفاع عنه ومهاجمة أعدائه، إلا أنه يستمر في مطالبتهم في المزيد، ويجمعهم ليلقي عليهم دروساً في العقيدة الطاغوتية، ويعطيهم التوجيهات والتعليمات حول ما ينبغي أن يفعلوه ليجذبوا الناس إلى صفّه.الخطاب الديني الحيادي (الله يطفيها بنوره)وقد حافظ كثير من أصحاب الخطاب الديني الحيادي على حيادهم الزائف، وإن كانوا قد اعتزلوا المنابر في الغالب، فالمناطق المحرّرة لا تقبل منهم هذا النوع من الخطاب، وتطالبهم بموقف واضح، وأن ينصرفوا إلى خطاب الجهاد أو التوعية، والمناطق المحتلّة لا تقبل منهم بأقل من التشبيح الواضح كذلك.لكن الموجودين من هؤلاء في المناطق المحرّرة استمروا في نشر خطابهم على طريقة المرجفين في الأرض، يبثّون موقف النفاق؛ لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، ويغمزون من قناة المجاهدين ما استطاعوا، ويركّزون على الأخطاء والهفوات، ويكتمون ما يرونه رأي العين من إنجازات على الأرض.الخطاب الجهادي (السلاح على المنابر)لأول مرة في سورية يرى المصلون السلاح على المنابر؛ فالمجاهدون في الجبهات كان بعضهم يتولى الخطابة والتدريس في المساجد، وسلاحه لا يفارقه حتى على المنبر، وبرز خطاب ديني جهادي، جديد في شكله جديد في مضمونه؛ بدأ هذا الخطاب الديني يؤصّل للجهاد ضد النظام، ويبيّن للناس إجرام النظام وكفره، وصياله على المسلمين، ووجوب الجهاد ضده؛ لأنه جهاد دفع عن الدين والعرض والنفس والمال.كما كان الخطاب الجهادي يحرّض الناس على حمل السلاح لجهاد الطاغية، ويبيّن الفضل العظيم للمجاهدين على القاعدين، وعظم الأجر الذي ادّخره الله سبحانه للمرابطين على الثغور، وفضل الشهادة في سبيل الله. وكان لهذا الخطاب الجهادي دور كبير في انضمام كثير من الناس للحركات الجهادية والكتائب الثورية المقاتلة ضد النظام، وساهمت في إمدادها بسيل من المتطوعين لا ينتهي.خطاب الشدة والغلظةكما برز نوع من الخطاب الديني يتسم بالشدّة على المخالفين والغلظة في الدعوة والإنكار، وكان أصحاب هذا الخطاب في معظمهم من فئة الشباب المجاهدين، الذين أثرت فيهم خشونة الجبهات وغلظة القتال، ولم يتمكنوا من الانتقال إلى خفض الجناح للمؤمنين والمجادلة بالتي هي أحسن مع المخالفين.فئة أخرى من أصحاب هذا الخطاب كانت قد تولت محاربة البدع والمبتدعة في أيام النظام، وكانت تتعرض للاضطهاد والقمع، فوجدت الفرصة سانحة للثأر من هؤلاء الذين كانوا يعادونها في الزمن الغابر، ولم تستطع التخلص من حظ النفس وشهوة الانتقام.خطاب التوعية (الدعوة والإرشاد)مارس نظام الطاغوت البعثي تجهيلاً دينياً مركّزاً على الشعب السوري طيلة عقود حكمه، بدءاً بالتضييق الأمني الشديد على التدريس الديني، وصولاً إلى إفراغ المناهج الدينية من محتواها وربطها بسيرة الطاغية وإنجازاته، وإلغاء درجة التربية الدينية من مجموع الشهادات الدراسية العامة.ذلك كله ترك أثراً قاتماً على الناس، من جهل بالدينمركب لدى المثقفين، إلى جهل بالدين مركب تركيباً مزجياً لدى العامّة. حتى أضحى الدين غريباً بين أبنائه، وصار التديّن مدعاة للسخرية بين قطاعات واسعة من الناس.فكان لا بدّ من توعية شاملة، ركّزت في بادئ الأمر على نشر عقيدة التوحيد بين الناس، ونزع صفات الألوهية عن الطاغوت، وسرعان ما بدأ التعليم الديني يتسع في المساجد، وانطلق أصحاب خطاب التوعية والتعليم في نشاط عجيب، وانتشرت حلقات العلم الشرعي، لتشمل تعليم القرآن وتحفيظه وتفسيره إلى جانب العقيدة والفقه والسيرة والحديث النبوي الشريف، وشهد هذا النوع من الخطاب الديني نشاطاً قلّ نظيره. كما برز إقبال الناس على حلقات العلم بعد أن حرموا منها طويلاً.كما كان خطاب التوعية موجوداً مع المرابطين على الجبهات ومع المقاتلين في ساحات المعارك، فلم يكن المجاهدون على سوية واحدة من الوعي الديني، بل إنّ بعضهم خرج حميّة أو عصبية أو شجاعة أو لا يدري فيم خرج! فكان لا بدّ لهؤلاء من خطاب واضح ينير لهم الطريق، ويجعلهم قادرين على إخلاص النيّة لله سبحانه، فيقدّمون أرواحهم في سبيله وحده، عوضاً عن هدرها في عصبية أو شجاعة لا رصيد لها من رضوان الله سبحانه.وقد ساهم خطاب التوعية الدينية هذا في تحوّل الكفاح الثوري لدى كثير من المقاتلين إلى جهاد ديني على أساس من العقيدة الصلبة، وكان لهذا التحوّل أثر كبير في صمود هؤلاء صموداً أسطورياً وتحقيق كثير من التقدّم على جبهات القتال ضد جيش الطاغوت.وظهرت الحاجة في هذا الخضمّ المتسارع إلى تنظيم هذه الأنشطة ورعايتها، وسرعان ما تولت جهات متخصّصة الإشراف على هذا النشاط، لمنع الفوضى وقطع الطريق على خطاب الإرجاف والنفاق. كما تولّت هيئات متخصصة تدريب أصحاب هذا الخطاب الديني وتأهيلهم، وتسليحهم بالفكر المعتدل، والعقيدة الصحيحة، والعلم الشرعي المدعّم بالأدلة.خطاب الطاغوتية الجديدةعلى أن الخطاب الديني الثوري لم يكن كله يسير على وتيرة واحدة، فالصدع بالحق ضد النظام وفضح جرائمه صار أمراً مألوفاً في المناطق المحررة، بعيداً عن سطوة النظام وسلطته. لكن من النادر أن تسمع من ينتقد الجيش الحر أو المجاهدين، مع وجود الأخطاء الكثيرة منهم، فليس كل من انتسب إلى الجيش الحر صادقاً، كما بدرت من بعض التنظيمات الجهادية الإسلامية أخطاء وهفوات، منها ما كان عن جهل بعض المنتمين إليها، ومنها ما كان عن قناعات تبتعد عن نهج الدعوة الإسلامية الصحيحة ابتعاداً تامّاً. مع هذا كله ليس من الشائع أن تسمع انتقاداً واضحاً يتناول هذه الأخطاء في الخطاب الديني.ويبرّر بعض من أصحاب هذا الخطاب ذلك الصمت بأن الوقت ليس مناسباً لفضح الأخطاء؛ لأن ذلك يفرق الصف ويشق الكلمة، وينبغي التركيز على الإيجابيات لتوسيع الحاضنة الشعبية للمجاهدين. بينما يرى آخرون أن سبب الصمت هو الخوف من تبعة الكلمة، إذ إن بعض الجهات لا تتقبل النقد، وكثيراً ما دفع المنتقدون ثمناً باهظاً قد يصل إلى الموت.وآخرون يرون أن هذه الأمة لا يمكنها أن تعيش مطمئنة إلا في ظل قبضة حديدية وحكم استبدادي، على أن تكون تلك القبضة ذات انتماء ديني ومذهبي يتفق مع انتمائهم، فيؤسسون في خطابهم الديني لطاغوتية جديدة لعلها لا تقل جبروتاً وعسفاً عن نظام الطاغوت الذي قامت الثورة ضده.وهكذا رأينا كيف تنوع الخطاب الديني في سورية بعد قيام الثورة، وكيف كان سلاحاً فعّالاً، لم يقصّر في استخدامه النظام أو المجاهدين، وكيف كان دوره في التوعية والإرشاد، ولعلّ الأخطر ضرورة التنبّه إلى انزلاق بعضهم في خطاب ديني سرعان ما يؤدّي إذا اتسع إلى صناعة طاغوت جديد.رمزية مع إزالة عبارة ” بقايا النظام وتحويلها إلى النظاموإزالة عبارة فتوى بقتل الشباب المسلمين .