ترجمة | حفصة جودة
كانت الخطاطة جومانة مدلج تشكل ببطء كل حرف باستخدام قلم من الخيزران مغموس في الحبر، حيث وجدت الهدوء وسط صخب الحياة العصرية تقول جومانة: “في الوقت الذي يتميز بالإلهاء المستمر، يساعدك الخط على التركيز الكامل”، تكتب جومانة بالخط الكوفي القديم الذي ظهر لأول مرة في نهاية القرن الـ7 ووصل ذروته في العصر العباسي ثم اختفى في القرن الـ13، تقول مدلج: “لقد كانت علامة مميزة لهذه السلالة، فقد كانوا بحاجة لخط جميل لكتابة رسائلهم”.
تمارس الفنانة البيروتية هذا الفن منذ 2007، وتقدم دروسًا في نهاية الأسبوع بالمركز العربي البريطاني في لندن، انضم إلى صفها الطالبة العراقية البريطانية هاجر إبراهيم بهدف إتقان الخط في عام واحد، تقول الطبيبة هاجر – 31 عامًا -: “لقد كنت بحاجة لهواية خارج نطاق العمل وإلا فإنني أقضي العطلة على الحاسوب”.
أما الطالبة ملاك الحمداني فتقول: “إنها لغتي وأحب أن أتقنها بطرق مختلفة”، تتميز الكوفية القديمة بالحروف الساكنة ذات الزوايا المستقيمة وجرة القلم السميكة الطويلة المناسبة لكتابة النصوص على الأوراق الثمينة.
ورقة من القرن التاسع مكتوبة بالخط الكوفي
تناقصت شعبية هذا الخط مع الوقت ومع ظهور خطوط أخرى مزخرفة ومبهجة، وبعد أكثر من ألف عام يقوم الجيل الجديد بإحياء هذه الخطوط القديمة حيث يكتشف انتماءه للعالم العربي ويجد الإبداع في النصوص القديمة.
تعبيرات القرن الـ21
يقول الفنان البريطاني روح العالم: “هذا الإحياء بفضل إقبال الشباب الذين كانوا يعتبرون في يوم من الأيام أن الخط فنًا تقليديًا”، قبل إطلاق مرسمه “Archetype” في لندن تعلم روح الخط في مصر على يد أحد الخطاطين، لكن فرص التعلم محليًا بدأت في التحسن مع اتجاه الخطاطين لتقديم دروسهم في لندن.
وفي مناخ من الاستقطاب السياسي يبحث الناس عما يعكس هويتهم، لاحظت الفنانة الهندية الكندية فطيمة محي الدين أن الخط العربي أصبح يُستخدم لخلق فن معاصر خاص بالمنطقة، وتقول: “إنه التراث والتاريخ يلتقيان بالتكنولوجيا والحوار المعاصر، لقد أصبح الخط وسيلة لربط الحركات الفنية المحلية بالمشهد العالمي وعرض ثراء الثقافة الإسلامية على العالم”.
الجمال في عين ناظره
كانت النقوش الكوفية الجميلة التي تعود لعام 692 قد خُلدت على قبة الصخرة في القدس ونُقشت بشكل بديع لتكون جديرة بالرسالة التي تنقلها، وعلى لوحة نحاسية عند البوابة الشمالية لقبة الصخرة نُسخت نصوص من القرآن تؤكد وحدانية الله، تقول مدلج: “القراءة هنا لا تهم كثيرًا فهو نص روحي محض يكفي فقط أن تنظر إليه، لكن ليست جميع أنواع الخطوط العربية دينية”.
ظهرت مخطوطات جديدة مثل خط النسخ والثلث في القرن الـ10، وتميزت تلك الخطوط الجديدة بالنعومة والانسيابية وسهولة القراءة والكتابة عن الخط الكوفي الذي انتهى في القرن الـ13.
لا يوجد أي هدف عملي من تعلم هذا الخط، فقد يستغرق كتابة صفحة واحدة نحو ساعتين أو ثلاث، لكن مدلج تقول: “إنه جزء من جاذبيته، فهو لا يتعلق بإنجاز أو تحقيق شيء ما بل يتعلق بالممارسة ذاتها”، في وقت الدرس يغلق الجميع هواتفهم فهم بحاجة للتركيز الكامل في هذا الفن الذي يتطلب الصبر والمثابرة، تقول الطالبة كاترينا شوان شو: “بعض الناس يمارسون التأمل وأنا أمارس الخط العربي”.
حان وقت التأني
من طبيعة الخط العربي الخاصة أنها توفر علاقة بين الحرف والنطاق الإبداعي الذي يقدمه، حيث وعاء الحبر المبطن بالحرير الخاص لتنظيم تدفق السائل الذي يجب أن يكون جديدًا مع كل جرة قلم، ويتم الكتابة باستخدام قلم من الخيزران له حرف مائل.
في لبنان يقوم جهاد الميقاتي بتدريس 3 أنواع خطوط من بينها خط النسخ (من أجل المخطوطات والسيراميك والبلاط) وخط الرقعة (للرسائل والمراسيم والمخطوطات) في معهد العزم للتكنولوجيا، ويقول جهاد: “هناك ما يقرب من 100 شكل مختلف إذا عملت في أنماط أقل شهرة”.
بعض أنواع المخطوطات تتطلب سنين عديدة لإتقانها، يقول سمير رحمن 27 عامًا ومدير بيت الخط العربي في شرق لندن إنه تعلم حرف الجيم في 3 أشهر وشاهد العديد من زملاء الدراسة وهم يتسربون واحدًا تلو الآخر، ويضيف: “نحن نعيش في عصر تستطيع أن تحصل فيه على كل شيء بضغطة إصبع، لقد أصبح الناس يرغبون في الحصول على كل شيء سريعًا”.
لكننا بحاجة لأن نعيد الاتصال بشيء ما واقعي وملموس يقنع الناس باستعادة قدر من الوقعية في حياتهم، ويمتلك فن الخط – خاصة الخط العربي الذي يحتاج وقت أطول لتسجيله – جاذبية فريدة لهؤلاء الذين يحنون لإحساس الورقة والقلم بين أيديهم.
يقول رحمن إنه شارك مؤخرًا في جلسة خط مدتها 90 دقيقة لوثائقي خاص بـ”BBC” بعنوان “فرشاة مع الصمت” يضم 18 خطاطًا يمثلون ثقافات مختلفة من جميع أنحاء العالم، ويضيف رحمن أنه لاحظ أن الآخرين يكتبون عدة صفحات في الوقت الذي يكتب هو فيه نصف صفحة فقط، لكن مع الخط العربي ليس أمامك سوى الكتابة ببطء.
الاستفادة من التقاليد
تعرض المكتبة البريطانية نسخًا قديمة للقرآن، ففي مجلد من القرن الـ13 تعرض صفحاته الأرجوانية نوعًا مميزًا من الخط يسمى “المغربي” الذي ظهر في المغرب وإسبانيا عندما وقعت تحت الحكم الإسلامي، يقع بجواره مصحف السلطان بيبرس المكتوب بخط الثلث بينما كُتبت عنوانين السور بالخط الكوفي، ويتميز هذا المصحف الذي كتبه أحد المماليك في القرن الـ14 بحوافه الذهبية المزخرفة التي تبدو متهالكة قليلاً بفعل الزمن.
يقول دانيل لوي منسق المجموعات العربية في المكتبة البريطانية إن دمج النصوص القديمة ربما يضيف جوًا من السلطة، وتوجد 6 مجلدات أخرى في واحد من الطوابق الأربع بالمكتبة البريطانية التي تضم 15 ألف نسخة عربية، كما توجد أقدم نسخة للقرآن التي تعود للقرن الـ8 الميلادي، بالإضافة إلى عدد من الأعمال الشعرية والألبومات الخطية التي تُطهر الخطاطين البارزين اليوم.
عادة ما يستخدم الأكاديميون تلك النسخ لدراستها، لكن في بعض الأحيان يسعى الفنانون للحصول على الإلهام من تلك المخطوطات القديمة، يقول لوي: “هذه المجموعة التي نملكها هي مستودع تاريخ الكتابة العربية”، ويرغب لوي في تعزيز المشاركة الإبداعية ومنح هذه الكنوز القديمة الفرصة لإعادة إحيائها في القرن الـ21.
تمتد هذه المجموعة حتى القرن الـ19 لترسم مجموعة هائلة من التنوع الإقليمي الذي يجعل العربية من أكثر الخطوط تنوعًا، ويعد ذلك الأمر متروكًا للأجيال القادمة للاستفادة من هذا الثراء ورعاية عصر جديد من الإبداع الذي يلهم المرحلة التالية من التطور ويحدد شكل المخطوطات العربية في السنوات القادمة.
المصدر: ميدل إيست آي ترجمة: نون بوست