ها نحن بدأنا نقترب من المشهد المعاصر الذي أفرزه التاريخ وضغوط الواقع، فسنن الهداية التي نزل بها القرآن تتشوه، ليصبح مفهوم العلم قاصراً في اللاشعور الجمعي على أنَّه علوم الدين التي تدرَّس في المدارس الدينية، ويسقط منها العلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية ولو على سبيل رسم صورة متكاملة للحياة، ورسم صورة ذهنية لمعنى العلم في الإسلام في ذهن طالب المدارس الشرعية أو العادية، وهكذا حضر عندنا عالم الشريعة وغاب عالم الإسلام…
واختلت قيمة الرحمة وتشوهت حتى أصبح الإنسان يغضب لرؤية فتاة حاسرة -وهو محق، لكنَّه لا يغضب لرؤية ملايين الفتيان والفتيات يتسولون في الشوارع، واختلت قيمة الإحسان فلم يعد يعني الإتقان ومراقبة الله في كل شيء، فتجد أحذية الركع السجود في المساجد بدلاً من أن توضع في أماكنها المخصصة، إذا بها ترسم مشهداً من الفوضى لا يفرق عن مشهد شوارعنا وإدارتنا وأعمالنا على حد سواء….
كذلك تشوه العدل والشورى، وفقدت العبادات فاعليتها، فلم تعد الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يعد الصوم يقود إلى التقوى.
لقد أصبحت منظومة سنن الهداية ومرتكزاتها في العقائد والعبادات والقيم ظلالاً للحقيقة وليست الحقيقة ذاتها، وحين ندعوا أو نتحدث قلما نوازن بين المطالب المختلفة للدين أو نرسم له صورة حقيقة إلا فيما ندر… وقلما نتحرك لتحويل القيم إلى نظم وإجراءات صارمة ندافع عنها ونحرسها. ولذلك كان من الطبيعي – والحال كذلك – أن يسقط من الأمة جناح العلوم التطبيقية وجناح علوم الإدارة وفنونها… فنحن في العلوم التطبيقية نستهلك ولا ننتج، وفي الإدارة لم نلحق بدول العالم المتقدم، رغم كثرة الدورات والبرامج في هذا المجال. هذه الاختلالات معلومة مشاهدة، ولكن ماذا تعني عملياً؟! ومن أين يجب أن نبدأ محاولة الحل لإمساك نقطة البداية الممكنة في مسار التراكم؟، حتى لا تتوزع المسئولية ويصبح الخطاب للثالث الغائب، بل تصبح المسئولية ملقاة على عاتق كل فرد، كما هي مقررة في القرآن الكريم (وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً).
فالإنسان سيُسأل عن الممكنات التي فرَّط في القيام بها. ولن يقبل عذره إن لم يؤد واجبه… وحتى يقوم المشروع نحتاج إلى العمل الصلب على ثلاثة خطوط كبرى: الأول: إصلاح عالم الأفكار والمشاعر، وهذا عمل نظري تبشيري في المقام الأول، يهدف إلى إيصال الأفكار الكبرى إلى النخب والجماهير، تلك هي المهمة الكبرى للعبور إلى حالة اليقظة والتنبه، فإذا ظلت أفكار النخب مشوهة والجماهير مغيبة؛ فلا نهضة تُرتجى ولا حراك. والثاني: بناء عالم العلاقات في الأمة على قاعدة (إنَّ هذه أمتكم أمة واحدة)، وقاعدة (وتعاونوا على البر والتقوى)، فالله سبحانه وتعالى يعلم أنَّ البشر سيختلفون، فتلك طبيعتهم، (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم)، لكن تقرير حقيقة الأمة الواحدة، وقاعدة التعاون على الخير تعني أنَّه بالرغم من الاختلافات والتباينات يمكن التعاون والتواصل فيما هو مشترك وخير، وبالتالي فالأفراد والأحزاب والجماعات يوجد بينها أمور تختلف فيها، لكنها يجب ألَّا تحول عن المشترك العام الممكن الالتقاء حوله والبناء عليه، ذلك هو خط بناء تيار الأمة المستعلي على الانقسام، والذي يشكل قاسماً مشتركاً للجميع.
والثالث: تشجيع ودعم عالم المشاريع الخيرة في المجتمعات، صغيرها وكبيرها، وشعار هذا العمل… كن مشروعاً أو كَوِّن مشروعاً أو ادعم مشروعاً… نحتاج إلى أبطال في كلِّ مجالات الحياة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام والعمل الخيري بأوجهه المختلفة. وكل ميسر لما خلق له، فلا يضيق أحد بأحد، بل من مجموع هذا الخير تتكون خطوط الخيرية في الأمة، هذا الخير قد يأتي من الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات… فكل خَيْر مُرَحَّب به ومدعوم. لا شكَّ أنَّ المساهمة الكبرى والحاسمة يمكن أن تقوم بها الحكومات في اتخاذ قرار الاحتشاد، لكن مسار المجتمعات لا يقل خطورة عن ذلك، وفي قلب مسار التراكم تأتي قضية المساهمات.