غسان الجمعة |
الذهان مرض نفسي يكون فيه المريض بحالة نفسية لا يعلم وقوعه بها معتقداً أن كل من حوله يريد إيذاءه والتخلص منه، بحيث يفسر تصرفات الآخرين في بيئته بشكل سلبي وارتيابي خاطئ، فيجانب الحقيقة في أقواله وتصرفاته بمظهر المنطقية والوعي هرباً من واقعه ومن أخطائه.
الرئيس الروسي الذي دفع بنفسه على الساحة السورية تلقى صدمة سياسية وعسكرية على بعد أميال من الوصول لقمة أحلامه، ووجد نفسه في منتصف المنحدر الذي صعده بخسائر وتضحيات لم تكن بحسبانه، فالروس اليوم عاجزون أمام حل مشكلة التوجس الإسرائيلي من النفوذ الإيراني في سورية، وهم بين حسابات خاسرة في ميزان العلاقة بين الجانبين مهما كانت صورة الحل لهذه المخاوف؛ لتشعب المصالح الروسية بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني، وكذلك لخطف الولايات المتحدة للثروة السورية والتمركز في شرق الفرات حيث النفط والغاز، ما أصاب الجهود الروسية بالإحباط والعجز، فوجد بوتين نفسه عائداً بخفي الأسد وجرائمه وفتات كعكعة رسم لنفسه فيها حصة الأسد.
لذلك نجد الرئيس الروسي لا يوفر منبراً يعتليه دون أن يتحدث عن الوضع السوري وبالأخص إدلب التي يسعى بوتين الآن لتدويل خسارته فيها، فادعى في إيطاليا مؤخراً أن مقاتليها يحاربون في ليبيا في اعتراف ضمني منه لصعوبة اختراقه لمنطقة خفض التصعيد الأخيرة التي اعتاد الروس القضاء عليها بسهولة ويسر، وعدم إقراره مع نفسه بحقيقة مصالح أنقرة وقدرتها على المواجهة في إدلب.
إن المنطقية التي دفعت الدب الروسي لتبرير استمرار الصراع الليبي هي نفسها التي دفعت به لخوض الصراع السوري من أجل محاربة الإرهاب قاطعاً آلاف الأميال، غير أن الظروف تختلف بين ذُهان التدخل بالغطرسة الروسية في بداية الأمر، وبين ذُهان التبرير والتلميح للفشل في إدلب مؤخراً وتصادم المصالح الروسية في سورية عموماً بمصالح أكبر منها سواء الإسرائيلية أم الأمريكية.
كما أن السياسة الروسية في سورية باتت تدرك عدم قدرتها على المواجهة مع الولايات المتحدة في الملف السوري لأسباب داخلية تتعلق بالشأن السوري وأخرى إقليمية تتعلق بملفات أوكرانيا و فنزويلا و العقوبات الاقتصادية، فالروس يدركون أن عدم التسرع في ملف إدلب يوفر عليهم خسارة أوراق سياسية أكثر من المكاسب التي من الممكن أن يحصلوا عليها، لذلك هم يحاولون تضخيم الملف والمراوغة فيه؛ لأن إنهاءه بأي صيغة يعني الانتقال إلى مسألة شرق الفرات والمواجهة مع الولايات المتحدة، و في حال تم حسمه عسكرياً (رغم المحاولة والفشل) فهذا سيفقد الروس الورقة التركية في الملف السوري كما ستزيد أعباء الأسد الاقتصادية والأمنية مع إضافة احتمالية انهياره عقب الخسائر الجسيمة في المعارك الأخيرة.
إن سياسة الهروب للأمام بانتظار المعجزات وتجاهل الحقيقة هي الخيار الوحيد المتبقي لدى روسيا، لذلك ستستمر بسياسة الصمت وعدم التصعيد في مواجهة الضربات الإسرائيلية وسياسة الأمريكية وحتى غض الطرف عن النقاط العسكرية التركية في محيط إدلب التي تتنامى تعزيزاتها بشكل مطرد بعكس فرص بوتين في السيطرة عليها.
إن اليوم الذي سيطلب فيه الدب الروسي من ينزله عن الشجرة السورية التي علق فيها ليحفظ ماء وجهه ليس بعيداً بعد أن أدرك أن النهايات ليست سوى بداية جديدة وهو ما لا تحتمله روسيا ولها تجارب سابقة فيه ليست ببعيدة.