حاورته: حنان عقيل |
الروائي زياد كمال حمامي يرى أن الكاتب المبدع هو الحلقة الأضعف إذا تكلم عن نصه، وهذا الأمر وجوبا من حق النقاد والقراء، فالقارئ الجاد المتمرس هو كاتب آخر للنص.
دمغت المأساة السورية الأعمال الأدبية بطابعها الخاص طيلة السنوات الثماني الماضية، وبات كل عمل روائي يخطّه سوري قد تفاعل مع هذه الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر، فانخرطت بعض الأقلام للكتابة عن الحدث فيما اهتم آخرون بالنبش في ما وراء الخراب والمعاناة. حنان عقيل أجرت حواراً مع الروائي والقاص زياد كمال حمامي لصالح جريدة “العرب” التي تصدر من لندن حول أعماله الروائية وتأثير الحرب عليها.
“قيامة البتول الأخيرة ـ الأناشيد السرية” عنوان الرواية الصادرة حديثا للروائي زياد حمامي، والتي يقول عنها إنها “قدمت موضوعات جديدة، جريئة، كاشفة للمخبوء”. حيث تتناول الرواية شخصيات جديدة على الأدب العربي مثل شخصية مغتصب النساء الموتى من تأثير الحرب القذرة والخراب، وشخصية “أم القطط”، المستبدة، وشقيقتها “الثريا”، العمياء التي تستطيع أن ترى من خلال حاسة شمِّ الروائح. كما تقدم الرواية الطقوس المريبة لعوالم “الماسونية”، و”عبدة الشيطان”، و”أخوة الحليب”، الذين يسيطرون على لعبة الكراسي الخفية في حياتنا العربية، ويجندون النخبة المثقفة المحبطة.
أما عن متن الرواية الأسلوبي، فيوضح حمامي أنه سعى من خلاله إلى تفكيك المألوف في حياة الشخصيات، وكذلك غير المألوف أيضاً، من زاوية تتكئ على المغامرة والتغريب والتجديد، والجرأة في معالجة التقنية الفنية التي تعتمد على فن السيناريو الدرامي، من خلال المشاهد المتقطِّعة المشوقة، تلك التي لها صلة بالواقع، ولكنها ليست كلها واقعية.
الولادة الجديدة
يوضح حمامي “تبرز صيغة حرب الكاتب مع شخوصه المتمردة، صراعه معها، وصراعها معه، ومع حروفه وجمله التصويرية، ففي البداية يعتبر العنوان ‘قيامة البتول الأخيرة ـ الأناشيد السرية’، نصَّاّ موازياً، والمفتاح الأول من مفاتيح النصِّ، ثم تأتي المشاهد المتلاحقة في كل فصل من فصول الرواية، لتحيلك إلى المشاهد الأخرى حيث معاناة الشخصيات، وصراعاتها، تجاورها وتتابعها، لترسم لوحة فسيفساء متكاملة، عبر نص مفتوح وجامع لكل ذرة وحرف وصورة ولغز في هذه الرواية، ولعلها تتجاوز الأجناس الأدبية المختلفة، وتتداخل، وتمتزج، لتقدم لنا لوحة كاملة”.
يرى حمامي أن الكاتب المبدع هو الحلقة الأضعف إذا تكلم عن نصِّه، وهذا الأمر وجوباً من حق النقاد والقراء، فالقارئ الجاد المتمرس هو كاتب آخر للنص، بل هو مكتشف ما لم يره غيره، والمبدع المميز هو الذي يدع القارئ يبدع أيضاً، كما أن الأديب إن لم يخترق دائما عوالم جديدة في تجربته الأدبية، فهو ليس مبدعاً، وسيغرق في أتون التقليد والتكرار.
وبسؤاله عمّا يُحرّضه على الكتابة، يقول حمامي “الواقعُ العربي الذي عشناه، وما زلنا نحترق في أتونه، أقسى من الألم نفسه، وأشدَّ وطأة، إننا الأضاحي التي تقدم نفسها من أجل غدٍ أفضل لأجيالنا القادمة، وقد يكون اللامعقول في غرائبيّته هو الواقع نفسه، أو هو الحقيقة المخفيّة، وأعرفُ إذْ ذاك، إنما نخشى منه، لابد من الولوج فيه، والمغامرة من أجله، وهذا ما يحرضني على الكتابة، ولهذا، ففي روايتي ‘الخاتم الأعظم’، حرضتني الفاجعة السورية، مزّقت روحي، شتّتني، وجعلتني تعويذة غريبة لهذه الحرب”.
ويستطرد “لا بدّ للكاتب، كما أرى، أن يكون صوت المقهورين في الأرض إبداعاً، وأن ينشر شهادته قبل الرحيل الأخير، إذ إن الكتابة ليست مادّة استهلاكية أو إعلانية أو شهوة جنسية عابرة، إنها الولادة الجديدة، وَمَنْ قال إنّ الكاتب يموت بعد نشر نصّه؟!
إنني أرى في ذلك ولادته من خاصرة النص الإبداعي، وبعد الولادة الجديدة لا بدّ أن يأتي الموت الإبداعي أكثر من مرّة. فالكتابة ـ ها هنا ـ من دون إبداع مميّز رغوة عابرة، مجرّد تقليد أو سرقة أو شهوة ساذجة للشهرة”.
أما عن روايته “الخاتم الأعظــم” فيقول الروائي السوري “كنتُ أبكي سوريانا حين أصوّر مشاهدها وتغيب عن عيوني الحروف، فأمسح خديّ وجفني، وأضعُ رأسي فوق طاولتي للحظات تكاد تقتلني، بل إنها كانت تهزّني، تقتحّمني، تناديني أن أستمرّ في فعل الكتابة، وكانت تقول لي: إن دموع اليتامى والثكالى والعذارى والشهداء تناديك، وكنت أسمع أصواتهم، ومناجاتهم، وأحس بآلامهم وأحلامهم، ومن هنا، ربّما، كان التحريض في كتابة وإصدار الرواية التالية ‘قيامة البتول الأخيرة ـ الأناشيد السرية’، إذ كان لا بد أن يكتمل المشروع الروائي الذي أحلم بتقديمه للأجيال القادمة، ومن هنا أقول، إن كل رواياتي وقصصي القصيرة مجرد مشاهد متتالية، متقاربة ومتباعدة، جديدة وقديمة، تقذف حروفها في رحم لوحة فسيفساء متكاملة، وبرأيي، ما على المبدع إلاّ أن يدرك سر موهبته، وسمو رسالته، وما يخفى في نفسه، وفي محيطه”.
نزع الأقنعة
يستمد حمامي شخوص أعماله الروائية من الواقع، والواقع المتخيل أيضا، ومن هنا يأتي التناسب في الخيال الأدبي، الممزوج مع الواقع، بل مع المنطق الخيالي للواقعية، ولهذا، ففي تجربته الأدبية مزيج من الخيال والواقعية، وهنا يُبيّن “لا شك أن الخيال وسيلة مؤثرة لمواجهة القضايا التي تعد مهمة في الواقع، والمبدع المميز هو الذي يستطيع استعادة صورة الواقع المسكوت عنه بعد نزع الأقنعة وتعرية الإسقاطات، وتصوير التفتت والتهرؤ الذي يصيب عالمه النصيّ، ويبرز الفن المضاد الذي يمثل رفضاً وخروجاً على الواقع، والإبداع في الحقيقة هو ثورة على الواقع، ومن هنا، كل النصوص لدي تتداخل فيها هذه الثنائيات من التخييل والواقعي، وما فوق الواقعي أيضاً، إقناعاً وإمتاعاً، فالخيال الإبداعي يعمل على مستوى مزدوج”.
حصل حمامي على عدد من الجوائز مثل الجائزة الأولى للرواية العربية، لدورتين متتاليتين في القاهرة عام 1993، وفي الكويت عام 1994، عن روايته “الظهور الأخير للجد العظيم”، ومن ثم فهو يرى أن المشكلة ليست في الجوائز الأدبية، إنما هي في فعل ممارسة الكتابة الإبداعية والقراءة والنقد والقارئ الحكم، فالحكم الأول والأخير هو لجمهور القراء، وبذلك يتم استعادة الأدب العربي والأدباء والقراء قيمتهم التي يستحقونها، والمشكلة أيضًا في النقد الأدبي العربي المتخلف كثيرًا عن مسايرة ما يصدّره الأدب، وما أكثر أمراض النقد وفيروساته السامة التي تسيطر على ساحة النشر، فالمشكلة هي في الوضع المزري لأدب بلا جمهور، بلا قراء، بلا تقاليد مجتمعية ممتعة للقراءة، بلا طقوس مفيدة للفكر”.
ويوضح الروائي “ينعكس هذا الوضع الثقافي العربي وفي ظل غياب النقد الأدبي على المبدعين والقراء ودور النشر معًا، حتى لو حاول الأدباء ركوب موجات التسويق والدعاية والإعلان والهرولة نحو الجوائز الأدبية، ونحو أشباه النقاد مجبرين، وهذه المهمات ليست من واجباتهم أبدًا، مما يخلق فجوات سلبية لا نريد لها أن تستمر إلى ما لا نهاية”.
ويضيف “فلنأخذ مثلًا القيمة المادية لجائزة (غونكور)، التي تمنح في فرنسا منذ عام 1903، وهي أهم جائزة أدبية فرنسية، حيث إن القيمة النقدية لهذه الجائزة العالمية لا تتجاوز مبلغ (عشرة يوروهات) فقط، لكن عدد النسخ التي تطبع من الرواية التي تنال الجائزة يمكن أن يصل إلى أكثر من نصف مليون نسخة، وبذلك يتم التفاعل الجمعي، والاستثمار المادي/المالي الأمثل والأرقى بين الكتّاب ودور النشر والقراء، ولهذا، فأنا كروائي، ورغم أنني فزت بعدد من الجوائز الأولى على مستوى الوطن العربي والمحلي السوري، إلا أنني مع تخفيض القيمة المادية للجوائز الأدبية كما هي جائزة (غونكور)”.
قيامة البتول الأخيرة رواية تشكيلية بامتياز، فيها كثافة تصويرية فريدة، وعقد سردية متعددة وشخوص متحولة ومتصارعة، الرواية كُتبت بأسلوب يحفز على النقد والكشف، لم تضع نفسها بمتناول القارئ منذ اللحظة الأولى، بل فرضت عليه أن يتأملها مراراً كالواقف أمام لوحة في متحف اللوفر، يحتاج وقتاً كافياً ليستطيع فهم الرسالة التي أراد الفنان أن يوصلها ويقولها من خلال خطوطه المتشابكة وألوانه المتناثرة على اللوحة، وقيامة البتول لوحة فنية رسمت بريشة كاتب أراد توجيه رسائله من خلال وعي القارئ ووجدانه لا من خلال الكلمات فحسب ..
أحمد وديع العبسي