جاد الغيث
لأول مرة أراها تبكي، بل وتنتحب بصوت عالٍ مع آهات تقلع الفؤاد من مكانه، أسبوع أشد سواداً من الليل أمضيته مع الخالة والأم الحنونة (أم أنس)، ننتظر موعد الرحيل عن حلب الشرقية، حيث كانت القذائف تسقط وكأنَّها زخات المطر، فتتفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها فيدخل الهواء البارد ليزداد الألم والوجع.
البطارية في الرمق الأخير، وضوء (اللد) بالكاد يجعلنا نرى بعضنا، لكن مدفأة الحطب تعيد الدفء للغرفة بسرعة، فهي تبتلع وتحرق قطعاً كبيرة من أخشاب الأبواب والنوافذ المحطمة بفعل القصف الذي لم يهدأ ساعة واحدة.
وكلما خرج أحدنا إلى الشارع عاد ببعض الأخشاب المترامية هنا وهناك! نحرق أبواب وأثاث جيراننا المحطم، وكما يحترق الخشب تحترق قلوبنا على حال أحبتنا ممَّن كانوا تحت التراب أو هاجروا بعيداً وبقينا نحن في حلب المحاصرة نجترع الخوف والقهر مع كلِّ نفس من أنفاسنا.
قرار إخلاء المدنيين من حلب الشرقية أصبح حلماً بعيد المنال، وخرق الهدنة المزعومة يزيد الأمر سوء، لا أحد يرغب بالحياة، صارت الوجوه تحمل ملامح الموت قبل أن تموت، والشوارع مكتظة بالناس يتسألون في حيرة وخوف متى سنخرج من حلب الشرقية؟
وجوه كثيرة كنت أراها دون أن أعرفها يتجمد لساني وتضيع الحروف من ذاكرتي،
أحد أصدقائي قال: “إنني ربما فقدت ذاكرتي حقاً”، فأنا لم أستطع تذكر اسمه حين التقينا في حي المشهد، والذي كان يشهد عذاباً لا مثيل له لآلاف المدنيين الذين وضعوا أمتعتهم وحقائبهم الملطخة بالطين على أرصفة الحي وراحوا ينتظرون خبراً يعطيهم الأمل بالمسير نحو معبر الخروج.
الخالة أم أنس كانت كاللبؤة الجريحة ينزف قلبها دماً، لكن روحها تطير عالياً، إلا أنَّها انهارت بالبكاء فجأة حين علمت أنَّ قذائف عديدة سقطت على نقطة رباط محمد.
نعم، لقد انهارت أمام عاطفة الأمومة، فمحمد ابنها لم يتجاوز السادسة عشر من عمره وهو آخر العنقود وهو شريكها أيضاً في المعاناة والألم طوال وجودهما في حلب الشرقية.
لم يمض وقت طويل حتى عاد محمد ليطمئن أمه على سلامته، دخل البيت الذي صار بابه يفتح دون مفتاح، فقبّل رأس أمه وأخبرها أنَّ القذائف لم تصب أحد بأذى، تناول رغيفاً من خبز الصاج وأكله واقفاً وحمل بندقيته وهمَّ بالخروج وكأنَّ ما سقط قبل قليل ورود ملونة وليست قذائف قاتلة.
صرخت الخالة أم أنس بصوت ربما وصل إلى السماء: “محمد لن تخرج من هنا أبداً
لقد باعوا حلب وقتلونا قبل أن يقتلنا جند النظام، لن تخرج من هنا أبداً فما جدوى الرباط وحلب صارت كلها مع النظام وبعد أيام يدخلون علينا هنا في بيتنا ويقتلوننا رميا بالرصاص، أريدك أن تموت هنا بجانبي”.
لم تستطع أن تكمل كلامها، وتركت غرفة الجلوس ودخلت إلى غرفة أخرى وراحت تبكي بصوت يفتت الحجر، وبكت لبكائها الجدران الصماء، والليل والبرد، والخوف والحزن، جميعهم بكوا على كل الشهداء ممَّن رحلوا وعلى كل حجرة وشجرة وذكرى دمرت في حلب الشرقية، لكن ما نفع البكاء؟ دقائق مرت كأنَّها سنوات طويلة.
خرجت بعدها خالتي أم أنس مبتسمة كعادتها دائماً ومسحت نظارتها الطبية بطرف غطاء رأسها ووقفت شامخة وقبلت رأس محمد ودعت الله أن يحميه من كلِّ مكروه
وعاد محمد للرباط وعادت القذائف للسقوط.
“من يؤمن بقدره سيرضى” هذا ما قالته أم أنس وأنا أساعدها في خبز الصاج، أكثر من مائة رغيف خبزتها لنا ولكتيبة عبود؛ ابنها الذي لم تلده، وكذلك كنَّا نحن جميعاً بالنسبة إليها، أولادها أنا وكثير من أصدقائي، بعيدين عن أمهاتنا وأهلنا، فكانت الخالة أم أنس أمَّا للجميع ومعطاءة دون حدود.
لا يقصدها أحد في خدمة إلا سارعت لخدمته، ولو كانت آلام ظهرها فوق أن تحتمل، فهي لا بدَّ من أن تنهض لتقوم بواجب الضيافة وإعداد الطعام، وفي أيام العيد تصنع لنا الرز بحليب والكعك وأقراص العجوة ونشرب الشاي في ظلِّ أشجار الشمسية والهواء اللطيف يداعبنا، وأهل الحارة يمرون أمامنا ويلقون التحية، فخالتي أم أنس لها شهرة واسعة، فالكل يحترمها ويثق برأيها؛ فتراها دائماً تحمل فوق همها هموم من يشتكون إليها ويطلبون نصحها.
كلُّ ما رويته لكم دخل في عالم الذكريات المفرحة والمبكية معاً، عادت خالتي أم أنس إلى قريتها الهادئة في الريف الغربي لحلب برفقة محمد آخر العنقود، أمَّا أنس الابن الأكبر فهو بعيدٌ في الريف الشمالي لحلب، وأما أنا فما زلت هنا!
هنا حيث الذكريات الموجعة والمبهجة، أقلب أوراق الأيام، استرجع منها العبر والدروس وأقص عليكم باختصار مشاعر وتجارب الأحرار، قالوا يوما ما: ” ما منركع إلا لله” فعاشوا مرفوعة رؤوسهم، ومن مات منهم مات شهيداً.