أ. عبد الله عتر |
على القضايا المشتركة في أصولها المختلفة في تفاصيلها يكون الاجتماع المشترك.. هكذا تتابع سورة الشورى ما بدأته، إذ ثمة دين مُنزَّل مشترك راسخ في المجتمعات الإنسانية حمل لواءه الرسل والأنبياء: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ))، ما هو الواجب تجاه هذا الدين المشترك؟ وماذا نفعل به؟ تخبرنا الآية أن علينا إنجاز أمرين: الأول: إقامة الدين: ((أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ))، والآخر: الاجتماع على الدين: ((وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)).
إقامة الدين.. نقطة التركيز الأولى
تعني إقامة الدين أن نقوم، نحن البشر، بفهم الدين والعمل به، فالدين لا يقوم بنفسه في المجتمع والحياة الحقيقية، هذه الملاحظة تنبهنا إلى أهمية التمييز بين حال الدين في المطلق وحال الدين في الواقع، فالدين قائم؛ لأنه حق من عند الله لا يضره من كفر به كما لا ينفعه من اعتنقه، لكن حال الدين في الحياة الفعلية إنما يأتي من حال أتباعه، نتذكر هنا تمييز (مالك بن نبي) بين أصالة الفكرة وفعالية الفكرة، فأصالة الفكرة تتعلق بالفكرة نفسها أنها صحيحة وقائمة على الحق، لكن فعالية الفكرة في الواقع الحقيقي قائمة على شروط عملية وأناس يؤمنون بها ويحسنون تفعليها.
أضاف المفسرون أن إقامة الدين تقتضي أيضًا الدعوة إليه وليس مجرد فهمه والعمل به.
هناك رؤية خاطئة تشيع هذه الأيام أن هذا الدين محفوظ فلا عليك أن تخاف عليه، نعم هذا صحيح على مستوى الدين المطلق أنه لن يزول إلا بزوال الحياة عن الأرض، لكن الآية تخبرنا بواجبنا العملي تجاهه، وهو إقامته في الحياة.
أين نقيم الدين وكيف؟ فتحت الآية النطاق كي ينساح الأمر في أوسع مدى يمكن للبشر أن يعيشوه أو يصلوا إليه، نعم في كل مكان وزمان وحال ومجال، في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة، في التفكير والتخطيط والتنفيذ والتقييم، في العمل الخيري والعمل الربحي، في الأسرة والمجتمع والسلطة، في لحظات كسب المال والثروة وفي لحظات الروح والتنسك، إقامة الدين في الدولة مطلوب، كما أن إقامة الدين في الحياة الخاصة مطلوب.
أعتقد أن هذه الإقامة الواسعة للدين تبتعد بنا عن خطين في التفكير: خط يرى أن إقامة الدولة ليست من الدين وليس للدين شأن فيها، وخط يرى أن إقامة الدين يتجسد بإقامة الدولة.
تأتي سورة الشورى هنا لتعلمنا درسًا بليغًا، فترد على الأول بأن طريقة إدارة “الأمر العام المشترك” إنما تكون وفق توجه إجرائي هو الشورى، وترد على الثاني بأن إقامة الدين أوسع بكثير من إقامة الدولة.
دين في مجتمع
الواجب الثاني بعد إقامة الدين هو الاجتماع عليه وعدم التفرق فيه، هذا الاجتماع له مستويان: اجتماع الفكر والمُعتقَد، واجتماع العمل والمعاش. اجتماع الفكر والمُعتقَد على الدين المُنزَّل ستأتي الآيات اللاحقة وتطلبه من الرسول مباشرة: ((وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ))، أما الاجتماع على مستوى العمل والمعاش فتأتي آية الشورى وتطلبه من المؤمنين مباشرة: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)).
مرة أخرى نلاحظ البُعد العملي الذين يُحمِّل الشأن الديني على نضال الناس في الحياة الفعلية، فلا يكفي حفظ الدين على المستوى الفردي، بل لا بد من تشكيل اجتماع حقيقي حوله، هذا الاجتماع الإنساني العملي أحد مقاصد سورة الشورى كما يذكر المفسِّر (البقاعي)، وستتابع الآيات تشرح أهم تحديات الاجتماع مثل (البغي، والكبر، والشك)، وهو موضوع المقالة القادمة.