أ. عبد الله عتر |
الكبر والبغي والشك؛ ثلاثة عقد شخصية واجتماعية ومعرفية تجهض عملية الشورى. هذا ما تخبرنا به سورة الشورى في الآيات (13، 14)، وذلك بعد أن شرحت الواجب تجاه الدين المُنزَّل وهو إقامة الدين والاجتماع عليه.
ويبدو أن تلك الثلاثية تغذي نفسها داخليًا، فالكبر يؤدي لمزيد من البغي والظلم، والبغي يوفر حوافزًا لمزيد من الكبر، والشك يدعم مقولات البغي والكبر وعدم الاعتراف بإمكانات الناس وقبول الحقيقة.
عقد الكبر.. حين يبدأ الانهيار
الميول العملية التي تتجلى فيها عقدة الكبر تظهر في المجال الاجتماعي (الناس) والمجال المعرفي (الحقيقة)، وتتركز في وضعيتين: انتقاص الناس والاستعلاء عليهم، ورفض الحقيقة. كان العالم الإسلامي حسّاسًا تجاه هذين الوجهين للكبر، بعد أن ذكرهما الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)). يشرح المفسرون آية الشورى: ((كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ)) بأن التواضع شرط أساسي لإقامة الدين والاجتماع عليه من خلال التشاور والنقاش، التواضع للناس واحترامهم، والتواضع للحقيقة والخضوع لها ولو لم تعجبنا، والتواضع للحقيقة يستدعي أن يشعر الإنسان بقصوره، وأنه لا يعلم كل شيء ويحتاج أن يتعلم من الغير ويتعاون معه، ولذلك ركزت السورة من بدايتها على تصوير محدودية الإنسان وعظمة الله.
جربت مجتمعاتنا عقدة الكبر بما فيه الكفاية، فنحن نفهم اليوم بشكل جيد أن عملية الشورى تتعثر بنفسها لأن الأطراف الاجتماعية والسياسية داخل بلدنا تتصرف مع بعضها من منظور الكبر والاستعلاء، إلا من رحم ربي. من إدارة الأسرة إلى إدارة السُّلطة وعلى طول الخط الواصل بينهما نحتاج أن نرسخ أعراف التواضع وتقنياته العملية، حتى تصبح عملية التشاور منتجة، التواضع للحقيقة يقتضي أن نتشاور؛ لأن معرفتنا الفردية ناقصة دائمًا، والتواضع للناس يقتضي الأخذ برأيهم ومشاركتهم. وهو الخط الذي مشى فيه القرآن نفسه، فجاءت آية التشاور في إدارة أمور الأسرة: ((فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاورٍ))، وجاءت آية الشورى في إدارة الشأن العام: ((وَأَمْرُهمُ شُورَى بَيْنَهُم)).
حين يتحول الكبر إلى بغي
ترينا سورة الشورى بشكل مباشر كيف تتنامى عقدة الكبر لتغدو ممارسة عامة للبغي، وهو أبشع تجسد سلوكي للكبر، هكذا تأتي آية البغي بعد آية الكبر مباشرة: ((وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)). يصاحب نشوء البغي ظاهرة التفرق والتشرذم، والبغي كما شرحه المفسرون هو ظلم مستند إلى هوى النفس، تلك النفس المتكبرة على الناس والحقيقة. اللافت في الآية أنها تعمّدت أن تخبرنا بطريقة واضحة أن توفر “العلم” لم يحل مشكلة “البغي”، فالتفرق الناشئ عن البغي حصل بعد أن جاءهم العلم، وهذه إشارة خطيرة إلى أن العلم، مهما كان نوعه، لا يحل بمفرده مشكلة البغي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إنه يحتاج أرضية أخلاقية مشبعة بالقيم. الإشارة الأخيرة أن هذا ثقافة البغي تمكنت منهم لدرجة أنها وصلت إلى البغي الداخلي، وهو مؤشر شديد السوء حين يتظالم أبناء البلد أو الدين الواحد فيما بينهم: ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) وليس بغيًا على غيرهم.
الشك المريب وسيطرة التفرق
تشرح السورة أن العقدة الثالثة الشك المريب: ((وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ))، فالذين كفروا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، من أهل الكتاب والمشركين كفروا بناءً على شك موجه للرسول والقرآن، هل الشك حرام؟ أليس الشك أول مدخل للتفكير وتمحيص الحق من الباطل؟ شرح المفسرين للشك في القرآن لا يتكلم عن الشك المساعد في الوصول للحقيقة، بل يتكلم عن “شك مريب”، وهو الشك الناشئ عن الجهل والموصل إلى الاتهام، كما شرحت سورة فُصِّلت: ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)). فرغم معرفة المشركين بأخلاق الرسول وصدقه الشخصي، ورغم المعجزات والبراهين التي جاءهم بها؛ فإنهم كفروا به بناءً على عقدة الشك المريب، فاتهموه بالسحر والجنون والكهانة.
لا يمكن إنجاز الشورى ولا بناءَ مجتمعات على عقدة الشك المريب؛ حيث يشك الجميع في الجميع في كل شيء دون مبررات حقيقية، وهو ما تشير إليه كلمة (في شك)، حيث يفيد حرف الجر (في) إلى أن الناس أصبحوا مغلفين تمامًا بالشك مغموسين به، حين تسيطر عقلية الشك بالنوايا والتصرفات والأشخاص فنحن أمام خراب وتفرق سيمكث طويلاً، إلى أن نتمكن من بناء خطوط الثقة فيما بيننا.