عبد الله عتر |
إنه “الأصل المشترك” الذي يتمثل في “الملة المتحدة” و”الدين المتفق عليه والشريعة المتفق عليها”.. بهذه العبارات شرح المفسرون الآية (13) من سورة الشورى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ”، مقابل هذا الجذر العالمي المشترك بين الرسالات، هناك جزء خصوصي جاء به كل رسول يخاطب أمته: “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا”، لنبحث عن مكونات هذا الدين العالمي المنزَل عن الدين المُوصَى به.
أصول العقائد والإيمان المنفتح
العنصر الأول في الدين العالمي هو “أساسيات العقائد” التي تقدم تصورًا عن الإله والكون والحياة والإنسان والمصير، وتحكي القصة الكونية الكبرى التي تفسر الوجود ومغزى الحياة، كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والقدر وخلافة الإنسان، حتى أن قارئ القرآن لا يكاد يميّز كلام نوح في فجر البشرية عن كلام محمد عليهما السلام. ولعل الحلقة المركزية الملموسة في عقائد الدين العالمي هي الإيمان بجميع رسل الله، هذا الانفتاح الإيماني على رسل الله يؤكد البُعد العالمي للدين، كما يؤكد أن من اتبع أو عصى خاتم الرسل في الشريعة التي جاءه بها كمن اتبع أو عصى أول الرُّسل، فأي رفض لمحمد هو رفض لموسى وعيسى، وأي رفض لموسى هو رفض لعيسى ومحمد، عليهم أفضل الصلاة والسلام.
الإيمان المنفتح على النبوات حيوي ديناميكي؛ عليك أن تؤمن بجميع الرسل الذين بُعثوا في كل بقاع العالم والتاريخ، وعليك أن تتبع الرسول الذي جاءك في زمنك ونطاقك، فإن كنت في زمن موسى ونطاقه أوجب عليك الإيمان المُنفتح أن تتبعه، وإن كنت في زمن خاتم الرسل، كان عليك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
أصول العقائد والإيمان العقلاني
في أساسيات العقائد المشتركة سنجد أن الدعوة الدينية من زمن نوح استندت إلى التفكر وإعمال العقل وإلى حرية المعتقد، إذ نجد الكثير من الآيات تشرح تفاصيل الحوارات المنطقية التي أجراها رسول الله نوح مع قومه، يظهر في تلك الحوارات كيف يدفعهم نوح للتفكر في الكون: “أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا”، ثم يعلن في نهاية المطاف: “أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ”.
وكذلك نجد الأمر نفسه، وبشكل أكثر وضوحًا، مع إبراهيم عليه السلام، كل هذا للتأكيد أن العمق التاريخي للدين الذين جاء به خاتم النبيين، يمشي على العقائد نفسها التي صدع بها نوح في مطلع البشرية، بل ويعتمد المنهج الحواري العقلاني المنفتح نفسه.
أصول الأخلاق في الدين العالمي
العنصر الثاني من مكونات الدين العالمي هو “القيم الأخلاقية”، تلك التي تكلم عليها النبي في حديثه المشهور: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”، في قمة تلك القيم الأخلاقية تأتي قيمة العدل، حيث يتكرر موضوع العدل والظلم في سورة الشورى (12) مرة، ليأخذ مكانة مركزية من الدين العالمي، ففي الآية (15) يربط القرآن بين الإيمان بالرسالات المنزلة وإقامة العدل: “وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ”. ثم بعد آيتين نسمع: “اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ”. هذا الاستنتاج الضمني تصرح به سورة الحديد: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”.
بجوار قيمة العدل تأتي قيمة الشورى، حيث قامت السورة بنسج ضفيرة محكمة بين العدل والانتصار على الظلم وبين الشورى، فنسمع الآية المشهورة: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”، يأتي بعدها مباشرة: “وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ”.
سرد المفسرون قوائم تتضمن أبرز القيم الأخلاقية المستقرة في الدين العالمي، من تلك القوائم ما كتبه (ابن العربي) في تفسيره، حيث ذكر قائمة من عشرة بنود: (الصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنى، والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات). ثم أفرد (ابن العربي) قيمة الشورى، ووصف بعدها العالمي الموغل في الدين، فهي عنده ” أصل الدين وسنة الله في العالمين”.
بعد (أصول العقائد، وأصول الأخلاق) يبقى العنصر الثالث والأخير من مكونات الدين العالمي المُنزَّل، وهو (أصول التشريعات والأحكام)، وهي المقالة القادمة.