أ. عبد الله عتر |
مضمون الدين العالمي الذي بدأه نوح وختمه محمد، عليهم الصلاة والسلام، يمتد على ثلاثة حقول كبرى: (حقل العقائد، وحقل الأخلاقيات، وحقل الأحكام والتشريعات)، هذه الأحكام التي تشرح المنعكسات العملية والتحديدات التفصيلية في ممارسة العبادة وضبط التعاملات بين الناس والعلاقة بالطبيعة يسميها كثير من العلماء باسم (الشريعة)، وهي نوعان: شريعة متحدة بين كل الأمم، وشريعة خاصة بأمة دون أخرى وزمن دون آخر، وقد كانت الشريعة الخاتمة هي الشريعة الخاصة بالزمن الخاتم الذي بدأ من بعثة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى قيام الساعة. الشريعة المتحدة في العالم التي حملها رسل الأمم هي (الأصول، والقواعد الكلية، والفروع التفصيلية المحورية).
يذكر المفسرون من العبادات العالمية المنزّلة (الصلاة، والصيام، والحج، وتحريم الشذوذ الجنسي، وأكل لحم الخنزير، والقمار، وشرط التراضي في العقود التجارية..) وغير ذلك، وهذا يدل على قدم تلك الممارسات والأحكام، نعم قد تختلف كيفية أداء الصلاة والصيام لكنها تبقى ضمن قاعدة الصلاة، كما أشار بعض الفقهاء، فهي أفعال مخصوصة يؤديها الإنسان يُقصد بها تعظيم الله.
الشورى بوصفها شريعة دينية عالمية
كان هناك توجه قديم بين المفسرين يرى أن الشورى أحد الأحكام العملية المشتركة بين الشرائع المنزّلة، وهذا يعني أنها قديمة قِدم المجتمعات البشرية، ويدعم هذا التوجه أن سورة الشورى في مطلعها أشارت إلى أن التعاليم والمعاني الواردة فيها هي ممَّا ورد في شرائع الوحي الماضية (في مقالة سابقة: فك الحصار وكسر قيود الوعي).
يذكر المفسر (ابن العربي) أن “الْمُشَاورَة أصل الدّين وَسنة الله فِي الْعَالمين، وَهُي حق على عَامَّة الْخَلِيقة؛ من رَسُولٍ إِلَى أقل خلق بعده فِي درجاتهم”، ثم يؤكد أن “الشورى سيرة أولية وسنة نبوية وخصلة عند جميع الأمم مرضية”. ويؤكد البقاعي المفسر المشهور أن مِن مقصد سورة الشورى بيان الحقيقة التالية: “الدين روح أمره الألفة بالمشاورة المقتضية لكل أهل الدين، كلهم في سواء كما أنهم في العبودية لشارعه سواء”.
الشورى بوصفها حكم وفق نتائج النقاش العام
أوضح المفسرون أن الشورى التي كانت جزءًا من الدين العالمي المنزّل هي النقاش في “الأمر العام المشترك”، ويضربون له أمثلة في تولي منصب الخلافة وقرار الحرب ونحو ذلك، وتتضمن عملية الشورى “استخراج الرأي منهم” وأن “يصغي كل منهم إلى كلام الآخر وينظر في صحته وسقمه”، كي “لا ينفردوا برأي ولا يستبدوا ولا يقدموا على أمر حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه”. وأكد أغلب المفسرين أن الشورى تتضمن عمليتين: النقاش واستخراج الآراء والإصغاء إليها، والاجتماع على قرار واحد بناءً على عملية النقاش.
من الواضح أن الشورى هنا ليست قيمة أخلاقية عامة، بل هي توجه إجرائي وتشريعي عملي يدخل في حقل الأحكام والتشريعات، الشورى هي منهجية إجرائية تضمن الممارسة الجماعية للحريات بطريقة عادلة، نعم هو تفصيل في طريقة إدارة الحكم والأمر العام، كما سمّاه المفسرون، لكنه تفصيل محوري شديد الأهمية.
الشورى في إدارة الحكم قديمة قِدم المجتمعات
هذا الفهم الذي تشير إليه الآيات وتصرِّح به كتب التفسير، فهمٌ مثير جدًا لوعينا المعاصر، فقد شاع أن الديمقراطية في إدارة الشأن العام والحكم إنما هي منجز حديث النشأة غربي الوجهة يوناني الأصل علماني الطبيعة، وهو رأي ساذج كما يقول الفيلسوف والاقتصادي الهندي (أمارتيا سن)، حيث ذكر أن الحكم بالنقاش العام ظاهرة ضاربة في التاريخ، وذكر في كتابه (فكرة العدالة) أن بعض المقاطعات الهندية كانت لديها مجالس تمارس عملية التشاور والحكم وفقها.
ويؤكد عالم الاجتماع السوري (مازن هاشم) أن عناصر التشاور والتحاور والتمثيل أوسع بكثير من التجربة اليونانية والغربية الحديثة، ولها أشكال وصيغ إجرائية متنوعة في تجارب الشعوب.
أعتقد أن التفكير بمسألة الشورى والحياة العامة وفق هذه المقاربة توضّح أصالتها في الضمير البشري والتشريع الديني، وأنها قضية مركزية في الشرائع المنزّلة، وإذا تأملنا مطالب أول الرسل (نوح) عليه السلام، وجدنا الكثير منها يدور تمكين القوم المظلومين من النقاش العام وإبداء الرأي وعدم الاستبعاد، حيث قال له الزعماء المستبدون: ((أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ))، وشرحوا ذلك أكثر: ((َمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْىِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ)). فكان جوابه: ((وما أنا بطارد المؤمنين)).