غسان الجمعة |
تمرُّ العلاقات السياسية بين أنقرة والرياض بأزمات معقدة ومليئة بالتحديات لكلا الجانبين باعتبارهما من أهم أقطاب التأثير في الشرق الأوسط، فما من ساحة مشتعلة فيه إلا وجدت السعودية وتركيا على طرفي نقيض رغم حرص الطرفين على تجنب مواجهة علنية أو إشعال فتيل جديد للصدام فيما بينهما.
تستند علاقة البلدين إلى إرث تاريخي وثقافي عميق، لكنه بات في العقد الأخير ثقيلاً على سياسات كلا البلدين نتيجة تطورات طرأت على توجه أنقرة والرياض كلاعبين في الشرق الأوسط، وقد بلغت ذروة الصدام بينهما في العام الماضي عندما أعلن ولي العهد السعودي أن محور الشر في المنطقة هو تركيا وإيران والجماعات المتطرفة.
العلاقات الراكدة بين قطبي العالم الاسلامي حركتها ثورات الربيع العربي، حيث كان كلا البلدين قبله يخطو نحو أهدافه بعيداً عن الآخر، فقد كانت تركيا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والاندماج معه، بينما كانت السعودية منشغلة بمحيطها العربي ومواجهة إيران، بالإضافة إلى أن مصر كان لها دور أكبر من السعودية في ملفات الشرق الأوسط وقضاياه.
إلا أن الحراك الشعبي العربي بداية عام 2011 أتاح الفرصة لتركيا في مناطق تركتها العثمانية لتحقيق دور بارز فيها، كما أن المملكة السعودية وجدت نفسها تقود القرار العربي بعد التخبطات التي ضربت أروقة صنع القرار في عدة عواصم عربية مثل القاهرة ودمشق وطرابلس وتونس، فما كان منها إلا أن احتوت تلك الثورات ومالت بدعمها لما بات يُعرف بالثورات المضادة وإن اختلفت الطريقة بين بلد وآخر، وهو ما جعلها في مواجهة الموقف التركي الذي دعم هذا الحراك وسانده بأشكال مختلفة.
الصدام الأول بين أنقرة والرياض كان في التجربة المصرية (بوابة الشرق العربي) عندما دعمت الرياض انقلاب السيسي على الشرعية وساهمت بعد ذلك في شيطنة الأخوان المسلمين لقطع الطريق على التوجه الفكري (الإسلامي) الذي بدأ يسود مناخ الثورات وهو ما اعتبرته (العائلة الحاكمة في السعودية ) خطوة أولى نحو محاصرتها وتجريدها من مشروعية تزعمها للمقدسات الدينة وتياراً إسلامياً جديداً سيخلق لها مشاكل مستقبلية في منظومتها الداخلية المبنية على السلفية والقبلية سيما وأن الإطلالة التركية بوجهها و تجربتها الناجحة على حديقتها التاريخية في المشرق العربي أعادت الأمل في نفوس شعوب المنطقة، و قادت أفئدة التغيير نحو التجربة التركية الناجحة وقوة تأثيرها في المنطقة والعالم، مما دفع السعودية للتحرك بشكل أكبر بمالها السياسي و نفوذها الاقتصادي لمواجهة الشعبية المتزايدة للدور التركي ثقافياً و إعلامياً و سياسياً و عسكرياً.
ولذلك فإن الصراع بين متزعمي العالم السني هو أعمق من قضية حصار قطر وقواعد تنتشر هنا وهناك، وهي أكبر من فضيحة اغتيال الصحفي خاشقجي، فكل ذلك ما هو إلا رأس الجبل الظاهر في علاقات البلدين، بينما تحمل هذه المشكلات صراعًا وتنافسًا فكريًّا ورياديًّا لقيادة المنطقة والعالم الإسلامي ببُعد سياسي وتنظيمي من منظور المصالح لكل طرف.
ورغم ذلك يحرص البلدان على الحفاظ على أوتار الدبلوماسية بينهما، و إن شابها مد وجزر، فكلاهما يعلم أن مصلحته الإستراتيجية تقتضي عدم قطعها، فهما على جبهة واحدة في مواجهة النفوذ الإيراني وكل منهما بأسلوبه و طريقته، فالمملكة ترى في الثقل التركي عامل ردع إستراتيجي في ميزان صراعها المذهبي مع إيران، وبات الواقع يفرض عليها إظهار فعاليته بعد عبثية السياسة الأمريكية في مواجهة تصرفات إيران الأخيرة، بينما تشكل السعودية ودول الخليج جبهة متقدمة لصراع المصالح والنفوذ مع طهران بالنسبة إلى تركيا، وهو ما تريد أنقرة الحفاظ عليه لتفوت الفرصة على غريمها التقليدي في الصراع على المنطقة العربية.
فهل تصحو دبلوماسية تركيا والسعودية من كابوس خلافهما سيما وأن كلاهما يعي تماماً قوة تكامل إمكانياتهما في أخذ دور أكبر في حل مشكلاتهما الداخلية ومواجهة تحدياتهما الخارجية؟