لا يمكن لأحد أن ينكر أن أحد أهم أسباب ظهور العِلمانية بعدائيتها للدين والمعتقد هو ما كانت تقوم به الكنسية الأوروبية من ممارسة التسلط والهيمنة على الإنسان الغربي .فالكنيسة _ ومنذ العصور الوسطى حتى بدايات عصر النهضة الأوروبية التي انبثقت من أساس علماني _ مارست تسلطاً غاشماً بحق الأفراد ، فكانت تقوم على محاربة العلم وتجهيل الناس واستغلالهم ، لكي تبقى هي المسيطر الأول والأخير على المجتمع ، حتى وصل الاستخفاف بعقول الناس حدّ بيع ما عُرف بصكوك الغفران حينذاك .وحتى في الجانب الديني كانت الكنيسة تمارس نفوذاً قمعياً ، فالكتاب المقدس لا يسمح بقراءته لغير القساوسة ، كما أن الإنسان العادي لا يستطيع أن يصل إلى الله إلى عن طريق رجال الدين ، كل هذا وأكثر أدى إلى ظهور العلمانية بمعناها الغربي ” فصل الكنيسة عن الدولة وليس الدين عن الدولة كما يدعي البعض ” .ولكن الواقع العربي الإسلامي بخصوصياته المختلفة لم يسمح بممارسة التجربة العلمانية الأوروبية في محيطه قرون طويلة، إذ أنّه يتعارض تماماً والواقع الأوروبي المسيحي، فلم يحمل تلك الأفكار التي تدعو إلى الثورة عليه ، فهو لم يكبل حرية الأفراد ، كما أنه شجع العلم ودعم الحريات العامة والدينية ، وجعل من أصول العقيدة أنموذجا مدنياً رائعاً صالحاً للاحتذاء في كل زمان ومكان .أنّ العمل على تمكين الفكر العلماني في الوقت الراهن يمهد لدمار العالم ففي حين يظن رواده أنّهم يسيرون خطوة باتجاه الحرية ، يجهلون أو يتجاهلون بأنَّ مبدأ “المـادية” الذي تقوم عليه العلمانية وطغيانها القبيح على الأخلاق والدين جعل من العالم غابة مخيفة ، يأكل القوي فيها الضعيف بلا رحمة، فقط من أجل الكسب المادي، وهذا ما نشهده بأم أعيننا منذ فترة ليست بالقصيرة .إلى اليوم لا تزال رغبات معظم الشعوب العربية الإسلامية لا تتفق والمنطق العلماني، وليس من الصحيح أن يفرض هذا المنطق عليها، فهو سيولد حروباً لا تنتهي، دفاعاً عن الدين الذي تحمل العلمانية في الفهم الجمعي لواء محاربته، إذ أنّ هذه الشعوب لا تزال تتدثر بالمعتقد الديني ، ولا ترى نفسها موجودة بعيدة عنه، إلاّ من قبل بعض المنبهرين بالغرب الأوروبي من المثقفين العرب الذين آمنوا بمبدأ التعري على أنه نوع من أنواع الحريات الشخصية . المدير العام / أحمد وديع العبسي